تمرّ العقود وراء بعضها البعض في أزمنة العرب، ولا تعثر موضوعياً على تفسيرات مقنعة لظلاماتها وظلماتها وغياب العدالة فيها إلاّ عبر لمحة معبّرة لصديق في الأمم المتحدة يحزم حقائبه نحو التقاعد بعدما عمل فيها ثلاثة عقود:

"لم نتقدم خطوة واحدة. قضيت عمري في الأمم المتحدة "حكي بحكي" أوراق papers ومؤتمرات workshops وطاولات مستديرة وأسفار وقاعات مبرّدة، ثياب جميلة وياقات منشّاة، فنادق، سهرات، ولائم، تمنيات، بيانات ختامية، لجان صياغة وتوصيات، معارف دولية، رواتب عالية، زمان دوّار كمن يعلك الماء. إذن ؟

لا يثق العالم بنا. لماذا لا يثقون بنا ؟ لآ أعرف. لم أسمع منهم جواباً مقنعاً .

فعلاً: don’t they trust us? Why كرّر بالإنكليزية.

هذا سؤآل تاريخي عفوي مطروح ووجاهته تستأهل التأمّل والتفكير. لماذا لا يثق العرب والمسلمون بالأمم المتحدة وبالعكس؟ ولماذا لا يفرّق الناس بين دول الأمم المتحدة وأمانتها العامة ومنظماتها الدولية المتخصصة؟

ما الذي يحول دون تنفيذ القرارات الدولية المتعلّقة بالحقوق العربية؟ ومن هذا الذي يفرّغ الأمم المتحدة من رسالتها في منطقتنا خلافاً لبلدان العالم ؟

وكيف نميّز بين الأمم المتّحدة والدول الكبرى التي لم تبلغ حضارة التوحد بل كيف نوجد فسوحات إنسانية بشرية بين الأمم المتحدة وتلك الدول؟ أوكيف نرمم هذه الفجوة المظلمة بين المنظمات الدولية وبين الرأي العام في بلادنا الذي يزخر جمعيّات منخرطة جدّاً بما يوكل إليها من مهمّات تغييرية تحضيراً للربيع العربي؟ من هي الجهات المسؤولة عن هذا الخلل؟

هل أنّ الأداء العام للأمم المتحدة هو السبب أم أنّ استراتيجياتها الخاصة ببلادنا باردة غير عادلة، مطعون بها منذ فلسطين مثلاً، ولا ما يقرّبها من الناس والأشياء والأحداث؟ رأى ستيفان دو ميتسورا أنّ" أيّ عربي سيجد صعوبة في التحدث عن فلسطين، مثلاً،من دون انحياز وإلاّ فإنّه سيوصم بالخيانة من أقرانه، ولهذا أمام الأمم المتحدة مشكلة ايجاد الأشخاص الذين يتمتعون بهذه الثقافة الموضوعية". هذه رؤية غير موضوعية.

لماذا ترفل الأمم المتحدة منذ تأسيسها بالثياب السياسية والدبلوماسية الغربية على الرغم من كونها شديدة الإلتصاق في مهماتها بالقضايا الإجتماعية والإقتصادية والإنسانية الكونية؟

المسافة بين الثقة والعدالة هائلة تحتاج الى لغة ورؤى مشتركة، وما يزيد من تعقيدات هذه المسافة أنّ بلادنا هي منبع لكنوز الأرض لا حدود لها لحاجات البشرية وطمأنينتها وكنوز السماء التي قدّست هذه البقعة من الكرة الأرضية. فبأي سراج نبحث اليوم عن العالم المفتقر الى النبعين. إنّها مفارقة هائلة تتجدّد بين الشرق والغرب، مع أنّ العولمة بمعانيها الواسعة طمست أو أشاحت وهزّلت من ما يزال يقول بالمفارقات والفروقات بين شرق وغرب.

يحصل التيه بين السماع والإصغاء وتتزاحم هذه الأسئلة وغيرها في الداخل ونستغرق في البحث وخلف صديقي علم الأمم المتحدة بزرقته وغصن الزيتون يتقدّم المشهد بين أعلام الدول الأعضاء ودول العالم.

صحيح قلت أنّ شجرة الزيتون بركة أمام مبانى الأمم المتحدة والمباني الرسمية والساحات العامة في لبنان وأكثر من بلدٍ عربي لكأنّها هي موضة العصر، لكنها الشجرة التي سحبتني منه الى جدّنا فارس الخوري مندوب سوريا في مؤتمر سان فرانسيسكو (حزيران 1945) الذي اقترح مصرّاً على تخصير رسم الكرة الأرضيّة في العلم الدولي بغصن الزيتون رمزاً للسلام العادل والشامل بين الشعوب. استلهم الرجل الفكرة من طفولته المدموغة بالزيت والزيتون في الكفير من الجنوب اللبناني. ونحن اليوم نتفرّج على أجسادنا وساحاتنا تطوّق بالزنانير الجاهزة للتفجير أو المتفجّرة بما يملأ نشرات زمننا المعاصر. أكثر من ذلك نسحب اليوم الخرائط المستوردة ونبحث عن أعلامٍ جديدة لبعض الدول العربية وقد إستقرّ فيها الخراب، ونتشاجر على الصيغ الكثيرة المستنسخة تحت عناوين دينية والأقليّات وتنازع الحصص والفدراليات والكانتونات.

هذه هي الصورة التي تشوّه الدين والإقتصاد والحضارة.! لا تلفتنا صورة المستقبل، ونهدر في جدلٍ بيزنطي عقيم:

ماذا نسمّي مئات ألوف السوريين الذين فرّوا من سورية الى لبنان؟ نتخاصم بين تسميتهم نازحين تسهل عودتهم الى بلدهم أو لاجئين وللتسمية هذه أعباؤها في أدبيات الأمم المتّحدة ومصطلحاتها على إعتبار أن اللاجيء صاحب حقوق تكفلها الدولة التي فتحت له أبوابها قبل أن يصل إليها. وكأنّ المصطلح يغيّر في الواقع شيئاً. لم يعد هناك من معنى دسمٍ للقول أنّ الأمم المتحدة تقف الى جانبكم و تعمل لأجلكم، لاستعادة سيادتكم وبناء مؤسساتكم. فإنّ حجم الأموال المتدفّقة تحت عنوان النزوح ومقتضياته والعديد من مؤسساته وجمعياته تراكم الثروات بما يسـتأهل أطاريح بحثيّة حافلة بمرارة الفساد الذي يعني المحاكمات والسجون والإزدواجيات في المواقف والأقوال.

عندما سئل الرئيس فارس الخوري وكان وزيراً للأوقاف الإسلامية في سورية، عن الذكرى التي لاينساها في حياته، قفزت إلى لسانه قصّة غصن الزيتون والسلام بين الأمم، وقال:" من الذكريات التي لا أنساها... في مؤتمر سان فرانسيسكو الذي لم نُدع اليه في بادىء الأمر، وبذلنا جهوداً جبّارة لكي ندعى الى ذلك المؤتمر ونجحنا. وفي خلال هذا المؤتمر التاريخي بذلت جهد المستميت لتحقيق غرضين، الأول هو تدوين عضويتنا الرسمية في هذا المؤتمر، والثاني إدخال نص في الميثاق على أنّ الأعضاء المؤسسين لمنظمة الأمم المتحدة هم دول مستقلّة استقلالاً تاماً ناجزاً ولا يجوز إخضاع هذه الدول لأي نظام من أنظمة الوصاية والإنتداب. وعندما جلست بدوري لأوقّع على ميثاق الأمم المتّحدة أسوة برؤساء وفود الدول الخمسين الذين اشتركوا بوضع هذا الميثاق وتوقيعه، كانت أجمل لحظة في حياتي السياسية لأنّه بنتيجة هذا التوقيع تخلّصنا من الإنتداب....ومن غرائب الإتفاق أنّ قرار الأمم المتحدة بوضع نظام خاص بمجلس الأمن والمحافظة على السلام العالمي(25 تشرين الأول 1945) كان هو اليوم نفسه والساعة نفسها التي وضعت فيها وفود الدول العربية في مؤتمر" سان استيفانو" في القاهرة مبادىء ميثاق جامعة الدول العربية...يومها قلت عند التوقيع:

أرجو أن تكون قوّة الحق في هذه المنظمة الدولية أقوى من حق القوة، واستشهدت بعبارة لأبي بكر الصدّيق حينما ولي الخلافة أنه قال: "سيكون قويّكم ضعيفاً عندي حتى آخذ الحق منه، ويكون ضعيفكم قويّاً حتى آخذ الحق له".

كان الجواب: متى نثق بأنفسنا؟