لم يكن القتل شائعاً ومبرراً كما هو اليوم. لم يكن القتل وجهة نظر. ولم تكن فيديوات الأشاوس المبتهجين بجرائمهم موضع مونتاج سينمائي وتداول يوميّ بعد. لم تكن حواجز القتل على الهوية قد انتشرت أو حتى الاغتيالات. كان هناك تلك الجريمة؛ كأنها فوق مصافي الجرائم كلها. لا تزال مجزرة أهدن، رغم كل ما يعصف بالعالم من قتل يوميّ، جريمة فوق الطبيعة.

الأمر لا يتعلق بطوني فرنجية وكل من غُدر بهم في تلك الليلة، بل بطبيعة ذلك المخلوق الذي استلّ مسدسه ليطلق النار على طفلة لا يتجاوز عمرها ثلاث سنوات. مجزرة إهدن: حين يأمر بطل أبطال ما يوصف بالمجتمع المسيحيّ وحوشه في ميدان القتال بقتل كل ما يتنفس في إهدن بما في ذلك الزوجة والطفلة والكلب.

السؤال لا يتعلق بمن يصدر الأمر ومن ينفذه، بل بمن يواصل تقديم فروض العبادة لهؤلاء بوصفهم زعماء وأساطير سياسة لا حفنة قتَلة ومرضى نفسيين. يختبئ خلف زجاج نظاراته الداكن ويوزع الأوامر: «اقتلوا كل من يمكن أن يزاحمني على السلطة»، «اقتلوا كل من يخالفني الرأي»، «اقتلوا كل من لا يعجبه الأمران السابقان»، و«اقتلوا من سيحاول لاحقاً وضعي عند حدي». هل تخيّل وجه جيهان حين وقف فوق سرير أبنائه في قسم الولادة؟ صحيح أن «ثأراً» ملتبس الهوية نال من ابنته بعد أربع سنوات، لكنها لم تكن المستهدفة فعلاً، لأن من أعدّ العبوة إنما كان يستهدفه هو، أما في حالة جيهان فكان كل شيء مرتباً ومقصوداً: أنت اقتل طوني فرنجية، أنت اقتل زوجته، أنت اقتل الكلب، أنت اقتل «جنيناتيّ» القصر، أنت اقتل عاملة التنظيف، أنت اقتل الطفلة، وأنت ابحث عن ابنهم سليمان واقتله أيضاً. لا توفروا أحداً، إذا صادفتم الجدّ اقتلوه أيضاً. ولم يلبث أن جلس يرتشف قهوته في انتظار أن تتحقق أوامره بإزاحة أحد أبرز منافسيه من طريقه. هل أمر بالتنكيل بالجثث؟ لا أحد يعلم. هل تعلم منه خلفه وضع من يتمردون على أوامره بالبراميل وصب الباطون فوقهم قبل رميهم في البحر؟ لا أحد يعلم. هو علّم العصابات الإسرائيلية أم العصابات علمته؟ لا أحد يعلم. ما يفترض أن يعلمه الجميع أنه قبل انبعاث الفكر التكفيري وقبل البدء بإخراج الأفلام السياسية بشأن الخطر الوجودي وقبل أن يصبح المسيحيون «مهددين» و«مستهدفين» وغيرهما من الشعارات، كان ثمة جبان يخشى على زعامته من ابتسامة جيهان فرنجية. جعلوا منه أسطورة وملكاً ورئيساً فوق العادة، فيما هو يخاف في الحقيقة على مستقبله من فتاة لا يتجاوز عمرها ثلاث سنوات. لا يفترض تفويت فرصة لإظهار جبن بشير الجميّل دون استغلال. جبنه أولاً والكوارث التي حلّت بمجتمعه نتيجة سياساته ثانياً. فهو من ربط مصير المسيحيين في الشوف وشرق صيدا بمصير الإسرائيليين، فقُتل هؤلاء وهجروا وخسروا نفوذهم في الجبل بشكل دائم حين انسحب الإسرائيلي مديراً ظهره لهم، وهو ووالده استنجدا بالجيش السوري للاستقواء على بعض الأفرقاء، فلم يلبث هؤلاء أن استقووا بالجيش نفسه عليه. وهو من تصرف باعتبار المؤسسات والمرافئ وكل الأملاك الخاصة والعامة ملكاً لأبيه، فعاث بها فساداً ونهباً واستغلالاً. وهو مِن أبرز الذين حلّلوا الاغتيال السياسي والقتل والاستقواء بالسلاح، وهو صاحب الخيار الاستراتيجي الذي هجّر أسرة من كل أسرتين وسبّب مقتل شاب أو أكثر من كل بيت. من يبكون على ما وصل المسيحيون إليه اليوم يفترض أن يعلموا أن بشير، لا أحد آخر، هو من أوصلهم إلى ما هم عليه اليوم. ولا شك في أن خيارات بشير ستودي بهم إلى ما هو أسوأ بعد. هذه الحفرة حفرها بشير، وهناك من يواصل الحفر.