في السراي شابٌ يسأل كثيرون عن سرّه، لا بل يجرؤ هؤلاء في أخلادهم وقرارات أنفسهم على طرح التساؤل-المعضلة: من أي كوكبٍ يأتي الشيخ سعد، وعلى أي كوكبٍ يعيش؟

لا حاجة الى كثيرٍ من البحث في قواميس اللغة لإيجاد التوصيفات التي تليق برئيس حكومة لبنان العائد من غيبةٍ طويلة الى عهدٍ واعد. بقي الرجل على حاله كما عرفه كثيرون. أيفعُ في الجسد والروح، يحاول زرع بذور ذاك اليُفع في منصبٍ يعتريه الجمود منذ رحلته الأخيرة الى بلاد الاغتراب القسري.

"جمهرة" المفهوم السياسي

يحاول سعد الحريري رسم طريقٍ جديد للزعامة في لبنان. لا علاقة لاقتراب موعد الانتخاب بما يفعله الرجل عفويًا وبلا أي تكلّف، لدرجة أن بات صعبًا الوقوع على لبناني لم يلتقط “سيلفي” معه في الشارع أو في مناسبة. “يُجمهر” الشيخ سعد المفهوم السياسي، يشعّبه حدّ الشعبوية (في معناها الإيجابي)، يهبط الى الشارع في غير مناسبة، يتكلّم لغته، يسايره، يتماهى مع حكاياه ولا يخذل طالبي الصورة إن لم يسبقهم هو إليها. ببزاتٍ “شببلكية” أو بسترةٍ داكنة حتى في عز الصيف، يظهر الحريري الابن حتى في المجالس الرفيعة وليس آخرها “نزهة” القصر القصيرة مع الرئيس العماد ميشال عون.

استعادة المكان والمكانة!

لا يكسب الرئيس الحريري نقاطًا في شارعه السني فحسب، فهو وفي فترة ولايته الثانية يصطاد معجبين ومعجبات بأدائه وروحه القريبين. ربما هو حُكم العمر في عهدٍ يجمع الخضرمة والشباب ويتلونان معًا ليشكلا تلك الصيغة المنشودة القادرة والمقتدرة. يحاول الشيخ سعد منذ لحظة عودته الأولى الى لبنان استعادة المكان والمكانة. الأول بات في عهدته وها هو يمكث في السراي الكبير، يستقبل ويودّع ويعقد اجتماعاتٍ ويحملها الى القصر في نهاية النهار. أما الثانية فما زال يعمل عليها في نقاطٍ حساسةٍ ظنّ كثيرون أن من السهل انتزاعها منه عبثًا.

"تغريب"

لا يُفاجأ امرؤ بالشيخ سعد إن وجده أو لمحه في موقعٍ أو مشهدية لم يتوقعهما من رئيس حكومة. هي حكاية “التغريب” غير المستنسخة يواظب ابن الشهيد على “لبننتها” بما يتماشى مع التقليد وسرعة تقبُّل الناس. تغيب عنه لقطة شهيرة يوم نزع سترته مخاطبًا الناس، لتحضر لقطاتٌ جمّة يوثقها الناشطون ويبحث عنها الفضوليون. بسرعةٍ قياسية يزرع الحريري دينامية غير معهودة في الرئاسة الثالثة حتى يوم كان هو على رأسها في ولايةٍ أولى. وكأني بالعهد الجديد أطلق سراحه وأراح سجيّته ومنحه ضوءًا أخضر لفعل ما ارتآه أو ما يريده الجمهور على اختلاف مشاربه.

عرّاب طلب زواج

ليس غريبًا أن تلمح الشيخ سعد متزلجًا حتى لو كان الثمن كسر ساقه وتوزيع صوره في سرير أحد المستشفيات. ليس غريبًا أن يشارك الرجل في تخريج ابنه وأن يتمّ تناقل الفيديو على أنه مادة صحافية أساسية. ليس غريبًا أن يكون ذاك الشاب الصيداوي-البيروتي أول الخارجين في سباقٍ على الدراجات الهوائية في عمق العاصمة ترويجًا لحكاية التنقل النظيف الصديق للبيئة. وليس غريبًا أن يكون منذ ساعاتٍ عرّاب طلب زواجٍ في حفل سحور السراي الحكومي أيضًا وأن يخرج ممازحًا سائلًا ما إذا كان أحد يرغب في الزواج أيضًا.

عنصرا قوّة

قريبًا يبدو الشيخ سعد، لا بل قريبًا جدًا. ذاك القرب هو أحد مكوّنات نجاحه الراهن، يُضاف اليه عنصران: أولًا، النضج السياسي الذي اكتسبه في مرحلة السفر والذي تجلى في تزكية العماد ميشال عون لرئاسة الجمهورية تمهيدًا لعودته الى الرئاسة الثالثة، والمستمرّ في التجلي في خطاباته شديدة الحكمة والتيقظ. وثانيًا، “تويتر” الذي يبدو بمعيته مستعدًا لمحاربة الكون أجمع حتى لو تطلب منه الأمر “ردّ اللطشة” الجنبلاطية عن قانون الانتخاب بأخرى أكثر قساوةً.

حسن الخطبة...

لم يضمن الشيخ سعد نجاحه السياسي فحسب على رأس حكومة العهد، بل سعى الشاب الطموح الى تطوير نفسه بحيث لا يترك للانتقاد الاستسهالي الهزئي مطرحًا. فحيثما تمكّن من التحسين فعل ولم يقصّر، وحيثما وجد في الأمر صعوبة حاول ولمّا يزل من دون أن يستسلم. منذ اليوم الأول لإطلالته على الرأي العام اللبناني الذي نزل بأعداد غفيرة الى ساحة الحرية غداة استشهاد الرئيس رفيق الحريري، شعر سعد بأن المنابر ليست لعبته رغم أنه يختزن كمًا جيدًا من الثقافة وينهل جودةً من اللغتين الأجنبيّتين. فعلًا لم يكن المسرح مسرحَه. كثيرًا ما كان يتعثّر، نادرًا ما كان يصيب التشكيل بغض النظر عن المضمون الذي كان يُقدَّم له على طبق من ذهب. اليوم تبدّلت الأحوال، يبدو الشيخ سعد قادرًا على الإمساك بالخطبة من مطلعها حتى خاتمتها. يبدو قادرًا على ملامسة الحدّ الأدنى من حسن القراءة وتقطيع الجمل وإيصال الفكرة... في اختصار يبدو متصالحًا مع السياقية التي كانت مفقودة في سابق خطاباته رغم أنها كانت مكتوبة.

... والى الناس يعود

ليس سعد الحريري كتلة متحجّرة هابطة من زمن سياسي كلاسيكي. يريد الرجل أن يحدث خرقًا ما على مستوى التماس مع الناس. يريد أن يقول إن كلّ تلك الحركات التي ينتقدها بعض الحاقدين الكارهين غير المؤمنين بمنح الفرص إنما هي جزءٌ من شخصه وشخصيته. يريد أن يقول إنّ سعد الدين رفيق الحريري من الناس... والى الناس يعود!