لم أتخيّل نفسي يومًا عن فيروز كاتبًا. أقولها من دون الشعور بالذنب أو المعصية: لا تنير السيّدة الوقورة أصبِحتي ولا تسامر مساءاتي. لستُ من مدمنيها لسببٍ أجهله. ربّما “الحق” على أذني الموسيقية الهزيلة غير المدّعية أيَّ خضرمةٍ وغير الصاعدة سلالم ونوتات أفقه فيها كما أفقه في الطبّ والجراحة.

لستُ فيروزي الهوى خلاف كثيرين ولم أفكّر يومًا في نثر الورود فوق منزلها أو تقبيل الأيدي والأرجل لمقابلتها أو التقرُّب من حلقتها الضيّقة، ولا أشعر إزاء ذلك أيضًا بأنني “أشرِك” أو أرتكب خطيئة لا تُغتفر.

اليوم أجدني أخطّ بعض الخربشات غصبًا عني. صحيحٌ أنني لم أدمن تلك السيدة الغامضة يومًا، بيد أنني كنتُ متصالحًا مع مكانها ومكانتها لدرجة أن روحي تألبت مرارًا على إيقاع أغانٍ يمكن لأبعد رجل في أصقاع الدنيا أن يشير بإصبعه الى سيّدة من لبنان تؤديها اسمُها: فيروز.

من باب الصدفة (وهو اعترافٌ آخر بوهن ثقافتي الفيروزية لا بل الرحبانية وهو ما يُعدُّ تقصيرًا في وجهٍ من وجوهه)، شاء القدرُ أن أسمع “لمين” قسرًا لا طوعًا. لم أخترْ صباحًا فيروزيًا بل اختير لي. لم أُجِد (بضمّ الألف المهموزة) يومًا أن أكون فيروزيًا وما استحققتُ ذلك عن جدارة. لم أبحث عن السيدة، لم ألاحقها، لم أتعمّد استهلال يومي معها كما لم أتعمّد بميرون صوتها.

لم أسمع صوت فيروز في الأغنية، ذاك الذي اعتدته قسرًا لا طوعًا. لم ألمح وجه فيروز فيها. أأكفرُ إن قلت ذلك؟ أأكسر شيئًا من صورةٍ إن قلتُ ذلك؟ أاُرجَم بتهم التجديف وأنعتُ بالجاهل والرجعيّ رغم أنني لستُ مدعيًا التجهبُذ في النقد الفني كما أنني لستُ ذوّاقًا من أولئك الذين لا تفارق الـ”آه” أفواههم والسلطنة عقولهم انتشاءً؟

قد لا نستحق نحن شعب الـVoyeurism سيّدة كفيروز، ولكننا لا نستحق أيضًا أن تكون بعيدة عنّا كلّ هذا البعد. مفيدٌ لنا كبشر من لحمٍ ودمٍ أن نراها كما هي لا كما أريد لنا أن نراها. مفيدٌ أن تُخدَش الأيقونة لا أن تتحطّم كي نشعر أنها منّا. ربما أرادت السيدة الكبيرة أن تكون الى الناس أقرب، الى شعبها الذي يحبّ أقرب. تحبّ فيروز أن تقاصصنا من حينٍ الى آخر، حين تطلّ في ترنيمةٍ لنلمح منها وشاحًا خلفيًا على شعرها. تعشق أن تقاصصنا إذ تطلّ علينا ببضع كلماتٍ

عاميّة من دون أن نشعر بتجاعيدها التي لو رأيناها سنحبّها حتمًا وسنتقبّلها حتمًا. ربّما نستحقّ هذا القصاص نحن الذين لم نكن لنقدّرها الى هذا الحدّ لو لم تبقَ لغزنا الأكبر.

فلندع فيروز لفيروز. فلنترك تلك السيدة هانئة في بيتها المظلم. فلنسامحها ونسامح أنفسنا على ما لا نحبّ منها وما لا نستسيغ. فيروز ليست لنا وحدنا، فيروز لنفسها قبل أن تكون لأيّ آخر. وإن ارتأت أنّ “لمين” تشبهها فلا حاجة حينها الى كلّ هذه الترّهات الكتابية واللائمة العابرة من شخصٍ لم يصنّف نفسه يومًا فاهمًا في الأحجية الفيروزية وإن حاول فهمها فعقلًا لا كفرًا.