في تمّوز من العام 2014، ومن على منبر مسجد النوري في المُوصل، أعلن زعيم تنظيم "​داعش​" الإرهابي إقامة ما سُمّي بالخلافة على أراض تشمل مناطق من سوريا والعراق... واليوم، ومع تدمير المسجد المذكور، ومع هزيمة مُسلّحي "داعش" التصاعدية في المُوصل وكامل المناطق العراقيّة الأخرى، وفي سوريا أيضًا، الأكيد أنّ تحوّلات كبرى تنتظر المنطقة، بدءًا بالعراق وسوريا، فما هي أبرز التوقّعات بشأنها، بحسب خلاصات تحاليل مجموعة من المُتابعين الإقليميّين والدَوليّين للمعركة ضُدّ "داعش"؟.

أوًلاً: لا شكّ أنّ صفحة "الدولة الإسلاميّة" المزعومة في كل من سوريا والعراق، تُشرف على أن تُطوى، ليتحوّل مُسلّحو التنظيم إلى مجرّد "خلايا إرهابيّة" صغيرة ومعزولة مُوزّعة على بعض البقع غير المَمسوكة أمنيًا في الكثير من دول العالم، من دون أي قُدرة فعليّة على تغيير أي توازنات، لكن مع إحتفاظ هذه "الخلايا" بالقُدرة على تنفيذ ضربات إرهابيّة غادرة ومُؤذية، شبيهة بتلك التي يُنفّذها مُناصرو تنظيم "القاعدة" الإرهابي الذي تشتت بدوره بعد القضاء على معقله في أفغانستان مطلع الألفيّة الثالثة.

ثانيًا: لا شكّ أنّ أمام العراق خلال مرحلة ما بعد "داعش" تحدّيات كبرى، تبدأ بكلفة إعادة الإعمار الهائلة والتي تُقدّر بما لا يقلّ عن مئة مليار دولار أميركي، وتمرّ بإعادة الأمن والنظام إلى كامل أنحاء البلاد بما فيها المناطق الحُدوديّة، ولا تنتهي عند مسألة إعادة توحيد الشعب العراقي، حيث بلغ الحقد الطائفي والمذهبي المُتبادل أعلى مُستوياته. ويشعر أبناء المذهب السنّي بالتحديد بأنّهم مَهزومون، بينما ينقسم أبناء المذهب الشيعي بين مُؤيّد لإيران ومُطالب بإستقلال سلًطة العراق وإرادته السياسيّة، في حين لا تزال مُشكلة "الحكم الذاتي" الكردي من دون حلول جذريّة.

ثالثًا: من شأن وُصول قوّات "الحشد الشعبي" غير النظاميّة والمدعومة والمُسلّحة من إيران إلى الحدود السوريّة بحجّة القضاء على مُسلّحي "داعش" ومنعهم من التسلّل مُجدّدًا إلى العراق، أن يُغيّر الكثير من المُعادلات والتوازنات التي كانت قائمة في الشرق الأوسط، لأنّ نجاح الجيش السوري بملاقاتها إلى الحدود المُشتركة بين سوريا والعراق، يعني تثبيت خط الدعم اللوجستي البرّي الذي كانت إيران تحلم به دائمًا وتعمل على إنجازه منذ عُقود، والذي يتمثّل بإمكان إنتقال مُقاتلين من إيران وآخرين مُوالين لطهران من داخل العراق، إلى سوريا ليُصبحوا على الجبهة في الجولان، أو لينتقلوا برفقة "حزب الله" إلى جبهة الجنوب ال​لبنان​ي. وهذا الواقع الجديد سيستدعي تحرّكات إسرائيليّة لمُواجهة الخطر المُتنامي على كيانها، وضُغوطًا أميركيّة مُتصاعدة لمحاولة إحتواء هذا الخطر، الأمر الذي ستستغلّه روسيا لتقوية موقعها في المنطقة ودورها.

رابعًا: لا شك أنّه إضافة إلى القتل والأسر، فإنّ مصير الكثير من مُقاتلي "داعش" سيكون في مرحلة أولى الفرار من العراق إلى سوريا، وخُصوصًا إلى الرقّة، على أن تكون معركة الرقة المُقبلة والتي لا بُدّ وأن تُحسم بدورها مهما طال الوقت، بمثابة "المقبرة النهائية" لوجود "الدولة الإسلاميّة" المزعومة في العراق وسوريا. ومرحلة ما بعد "داعش" في سوريا تختلف عن تلك في العراق، لأنّ مشاكل العراق بأغلبيّتها داخليّة مع بعض الأبعاد الخارجيّة، بينما مشاكل سوريا هي إقليميّة ودَوليّة في الأساس مع أبعاد إنقسام مذهبي داخلي. وبالتالي ما ينتظر سوريا في مرحلة ما بعد "داعش" يرتبط بطبيعة الإتفاقات التي ستتم بين القوى الكُبرى، وفقًا للتوازنات التي ستفرض نفسها على الأرض. من هنا، يُمكن ملاحظة إحتدام المعارك في أكثر من منطقة، في ظلّ سعي أكثر من طرف للسيطرة على المناطق القليلة المُتبقيّة تحت سيطرة تنظيم "داعش" الإرهابي، لمُبادلتها بمزيد من المكاسب السياسيّة في مرحلة المُفاوضات المُقبلة، علمًا أنّ مشروع تقسيم سوريا لم يسقط نهائيًا بعد، حتى لو أنّ الغلبة هي حاليًا لصالح المحور الذي يدعم النظام السوري.

خامسًا: بالنسبة إلى لبنان، لا مخاطر جدّية وواسعة على مناطق كاملة– كما كان يُروّج سابقًا لتبرير التدخّل العسكري المُسلّح في سوريا، بل إحتمالات محدودة لفرار بعض إرهابيّي "داعش" نحو الداخل اللبناني، ليُشكّلوا "خلايا إرهابيّة" تُضاف إلى بعض "الخلايا النائمة" الموجودة أصلاً، مع ما يعنيه هذا الأمر من إحتمال التعرّض بين الحين والآخر لضربة غادرة هنا أو هناك لا أكثر، علمًا أنّ العمليّات الإستباقيّة التي تُنفّذها القوى الأمنيّة اللبنانيّة-على إختلافها، خفّفت كثيرًا من هذه المخاطر.

في الخلاصة، لا شك أنّ مرحلة الرعب التي أثارها الدعم الكبير الذي حظي به تنظيم "داعش" الإرهابي في بداياته، من قبل أكثر من طرف، ولغايات مُختلفة ولمصالح مُتضاربة، قد إنتهت وهي ستُقفل بشكل تام في المُستقبل القريب. لكنّ نهاية "داعش" كتنظيم مُسلّح مُنتشر على مساحة جغرافيّة واسعة، وتحوّله إلى "خلايا إرهابيّة" مُشتّتة، لا يعني أنّ مشاكل المنطقة قد حلّت، حيث أنّ من شأن وُصول بعض الأمور إلى خواتيمها أن يتسبّب برفع وتيرة "الكباش" بين القوى المُتصارعة في المنطقة، وبزيادة الضُغوط السياسيّة والعسكريّة المُتبادلة، قبل أن ترسو خريطة المنطقة الجديدة لمرحلة ما بعد "داعش" وقبل أن تُرسم خريطة توازناتها الإستراتيجيّة أيضًا.