كثرت في الأشهر الأخيرة التصريحات لمسؤولين وسياسيين من هنا وهناك تحذّر من الإرهاب الذي يتربّص بلبنان جرّاء نشاطات مقلقة تشهدها مخيّمات النازحين، وتدعو إلى اعتماد سياسة فاعلة ترمي إلى إعادة النازحين السوريين إلى بلداتهم.

لا نفهم كيف يمكن لنا معالجة مسألة جوهرية حساسة كمسألة النزوح السوري التي ترتبط مباشرة بأمن لبنان واستقراره ومعيشة أبنائه، مع دولة شقيقة تجمعنا بها وحدة الجغرافيا والتاريخ والمصير والمصالح المشتركة، ونتقاسم معها الآمال والآلام والتحديات، في الوقت الذي لم يتوقف فيه بعض السياسيين والمسؤولين في لبنان عن أن يصبّوا جامّ غضبهم على النظام السوري ويناصبوا العداء للدولة السورية ورئيسها، منذ اللحظة الأولى لاندلاع الأحداث الدامية فيها، ليكيلوا التهم جزافاً لسورية وقيادتها وينعتوها بأقذر النعوت، من دون ضوابط أو لياقات أو أصول آخذين طرفاً وموقعاً معادياً يريح بكلّ تأكيد الجماعات الإرهابية، متجاهلين ما ترتكبه هذه الجماعات من مجازر وجرائم وقتل وذبح وتدمير وتهجير، واصفين الإرهابيين تارة بالثوار وتارة بالمناضلين وتارة بالمقاومين للنظام، معبّرين عن بغضهم وكراهيتهم الشديدتين له ولقيادته، غير مكترثين بخصوصية علاقات الدولتين المميّزة، وغير عابئين بالتداعيات السلبية التي قد تلحق بلبنان مستقبلاً نتيجة هذه المواقف.

كيف يمكن إعادة النازحين إلى ديارهم وتخفيف الأعباء عن لبنان دولة وشعباً، من دون التواصل والتنسيق مع القيادة السورية والمسؤولين السوريين مباشرة، وذلك لبحث الأمور كافة ذات الصلة! وما الذي يمنع هذا التواصل ولدينا تمثيل دبلوماسي ولدينا فوق كلّ ذلك من الروابط الأخوية والعلاقات الوثيقة التي تجمعنا بسورية ما لا نجدها عند غيرها. وبأيّ منطق يُصرّ هؤلاء على عدم التواصل مع سورية وهذا منذ اندلاع الأحداث على أرضها! أهي سياسة النأي بالنفس الهزيلة التي تستخدم حين تدعو المصلحة، أم هي سياسة متعمّدة عن سابق تصوّر وتصميم تخضع لاعتبارات وتوجّهات خارجية لا يستطيع هؤلاء السياسيون تجاوزها إرضاءً وأخذاً بالحساب من له بيت الطاعة وبيده الثواب والعقاب!؟

كيف يمكن لهؤلاء السياسيين حلّ مشكلة معقدة كبيرة كمشكلة النزوح السوري، والذين يتحفوننا كلّ يوم بتصريحات مملّة يُبدون فيها غيرتهم وتحسّسهم مع اللبنانيين، وهم الذين بعد سبعة وعشرين عاماً من انتهاء الحرب الأهلية وحتى اليوم، لم يستطيعوا طيّ ملف المهجّرين اللبنانيين بشكل حاسم ونهائي، رغم أنّ عدد المهجّرين لا يتجاوز خمسة في المئة من تعداد النازحين السوريين في لبنان. ومع ذلك، تتربّع مع كلّ حكومة جديدة وزارة المهجرين دون أن يقول هؤلاء لنا بكلّ صدق إلى متى هذه الوزارة وهذه المهزلة؟ وفي أيّ عهد وزمن سننتهي من هذا الملف المعيب!

قولوا لنا أيها المسؤولون كيف يمكن لكم معالجة النزوح السوري من دون تنسيق وتواصل مع دمشق، وأنتم تديرون ظهوركم لها بلا مسؤولية وبلا مبالاة، وكأنّ لبنان على كوكب، وسورية على كوكب آخر؟

كيف يمكن لنا فهم قيام المسؤولين بعشرات الزيارات الرسمية إلى دول عديدة، عربية وغير عربية، وتُستثنى سورية من ذلك، من دون أن تتحرك النخوة ويتحرك الوفاء لزيارتها ولو بداعي الحدّ الأدنى من المسؤولية الوطنية والشجاعة واحترام الذات، وخاصة من قِبَل من كان ساعياً لمنصب أو منفعة أو دعم بدلاً من أن يُفرغ ما في داخله من حقد وكراهية ضدّها من دون أن يعيرها ذرّة وفاء؟

علاقات الأخوة والصداقة مع سورية، أيّها السادة لا تُنسج بالشكل الذي تسيرون عليه. وليس بسياسة الأحقاد وتصفية الحسابات وتقديم أوراق الاعتماد والولاء والطاعة للآخرين، وإظهار كراهيتكم الشديدة للنظام والقيادة السورية، تستطيعون إقامة علاقة أخوية سليمة معها مستقبلاً، وأنتم منهمكون بتظريف صورتكم وتظهيرها أمام أعدائها وأعداء الأمة كلها.

التنسيق مع سورية واجب وطني وأخلاقي وضروري، إذا ما أردنا صالح لبنان وسورية لجهة إعادة النازحين السوريين إلى ديارهم. فالتواصل والتنسيق، كما المباحثات المشتركة في هذا الشأن، تستطيع إيجاد خريطة طريق تسهّل في ما بعد إعادة النازحين إلى الأماكن السورية الآمنة، وفي أقرب وقت، أماكن تعرفها الدولة السورية قبل اللبنانية، والتي عبرها يمكن العمل على إعادة النازحين إلى بلداتهم.

لا يمكن للبنان تعليق قضاياه الحساسة حتى إشعار آخر، والاعتماد على التطورات السياسية التي يراهن عليها البعض خُبثاً، وربطها بمواقف شخصية متهوّرة حقودة متشنّجة تعبّر عن مواقف سياسية فردية، لتأخذ البلد بعدها إلى مواقع لا يُحسَد عليها. فهناك قضايا عديدة ملحة غير مسألة النزوح لا بدّ من معالجتها بحكمة ودراية ومسؤولية وطنية عالية مع القيادة السورية الشقيقة، اقتصادية وتجارية وحياتية وأمنية، وأبرزها مسألة ترسيم الحدود البحرية للمنطقة الاقتصادية الحصرية في الشمال اللبناني مع سورية، والخلاف الحاصل حول ترسيم البلوك 1 و 2 . إذاً لا يمكن للبنان حلّ هذه المسألة والقيام بالتنقيب عن الثروات البحرية متجاهلاً سورية ومبتعداً عن التنسيق والمحادثات المباشرة معها في هذا الشأن، حتى يتوصّل الطرفان مستقبلاً إلى حلّ عادل يحفظ لكلّ طرف حقه، وفقاً للقانون الدولي.

آن الأوان كي نتعاطى مع الشقيقة سورية بالطريقة اللائقة الصحيحة والنهج السليم الذي تمليه حقائق التاريخ والجغرافيا والصالح المشترك… فهل يعي البعض منّا هذه الحقائق لتجنيب لبنان ما هو أقسى وأصعب من مسألة النازحين قبل فوات الأوامن!؟