في الشكل إستضافت العاصمة الكازاخستانية آستانة الجولة الخامسة من المفاوضات الخاصة بالملفّ السوري، في حُضور مختلف الوفود المُشاركة، وفي طليعتها وفد النظام السوري وتسعة مُمثّلين عن المُعارضة السوريّة، مع التذكير أنّ هذه المفاوضات تتمّ برعاية كل من ​روسيا​ و​إيران​ وتركيا. وفي المَضمون الهدف الأبرز يتمثّل في الإتفاق على تمديد العمل بمذكّرة "مناطق خفض التوتّر" التي كان جرى التوافق عليها في أيّار الماضي، بموازاة تثبيت وقف النار طبعًا، وتفعيل عمل كل من لجان المُصالحة الوطنيّة ولجان إيصال المُساعدات الإنسانيّة والغذائيّة والطبّية، وإعادة إعمار البنى التحتيّة، والعمل على مُكافحة الإرهاب. لكن وعلى الرغم من الضجّة الإعلامية والصحافيّة التي تستحوذ عليها كل جولة جديدة من مُفاوضات آستانة، فإنّ المعارك الحاسمة والحلول الجذريّة هي تمامًا في أمكنة أخرى!

والسبب أنّ مُفاوضات آستانة هي عمليًا لترسيخ الإنتصار الذي حقّقه النظام السوري بفضل الدعم الجوّي الحاسم الذي أمّنه الجيش الروسي بشكل مُباشر، وبفضل الدعم البرّي الحاسم أيضًا والذي أمّنه النظام الإيراني عبر خليط من الميليشيات والوحدات المُسلّحة غير النظاميّة الإيرانية واللبنانيّة والعراقيّة والأفغانيّة. ومُشاركة تركيا كراع ثالث لهذه المُفاوضات، إلى جانب كل من روسيا وإيران، يهدف من جانب أنقره إلى حفظ مصالحها الخاصة في المنطقة وفي سوريا، لا سيّما منها منع إقامة دويلة كرديّة مُسلّحة على حدودها، في حين أنه يهدف بالنسبة إلى كل من موسكو وطهران إلى التسبّب بمزيد من الشرخ بين القوى الإقليميّة والدَولية التي توفّر الدعم إلى فصائل المُعارضة السورية بشكل أو بآخر، وتحديدًا بين كل من أنقره وواشنطن والرياض وغيرها، باعتبار أنّ من شأن تقسيم وتشتيت القوى والجهات الداعمة للمُعارضة زيادة نُفوذ وسيطرة الجهات الداعمة للنظام السوري، وهذا الأمر تحوّل إلى حقيقة ملموسة في الأشهر الماضية. ومن الضروري الإشارة إلى أنّ سوريا عبرت مخاض الكثير من محاولات إنهاء الحرب من دون أن تنجح حتى تاريخه، وذلك بدءًا بمُبادرة الأمين العام السابق للأمم المتحدة ​كوفي أنان​ في العام 2012، مرورًا بخطط وجهود المندوب ​الأخضر الإبراهيمي​ في العام 2013، ثمّ بمؤتمرات جنيف وجولاتها الثلاث ومؤتمر "فيينا"، وُصولاً إلى مفاوضات آستانة.

لكن وعلى الرغم من هذا الواقع الذي فرضته طبيعة المُفاوضات، وكذلك طبيعة الجهات المُشاركة فيها، فإنّ لا حلول جذريّة ستخرج من هذه المفاوضات، لأنّ الكثير من القوى المُتدخّلة في ​الحرب السورية​ والمؤثّرة فيها هي بعيدة عن طاولة التفاوض، ما يعني أنّ القرارات المُتخذة هناك تعني الجهات المُشاركة حصرًا، وتطبيقها على الأرض يتمّ بأسلوب أقرب إلى الفرض، في ظلّ مُحاولات عرقلة من قبل أكثر من طرف وجهة مُتضرّرة. وليس بسرّ أيضًا أنّ العديد من المعارك لا تزال قائمة في سوريا حاليًا، علمًا أنّ القوى المُشاركة فيها، وتلك التي تقف خلفها، غير معنيّة بقرارات مؤتمر آستانة. وفي هذا السياق، نذكر مثلاً إستمرار تقدّم "قوّات سوريا الديمقراطيّة" في بعض أجزاء الرقّة، وتحديدًا المنطقة الجنوبيّة منها، وفي المدينة القديمة من الرقّة، وذلك بهدف إخراج إرهابيّي "​داعش​" منها ومنح هذه المنطقة لمجموعات مُعارضة مُوالية لواشنطن، وكذلك إستمرار المعارك في ​القنيطرة​ حيث يُحاول ​الجيش السوري​ والقوى الحليفة له توسيع خط التماس المُباشر مع ​الجيش الإسرائيلي​ في المنطقة ليكون مُمتدًا من الجنوب اللبناني مرورًا بمزارع شبعا المُحتلّة وُصولاً إلى ​الجولان​ السوري المُحتل، وذلك في إطار الصراع المفتوح بين "محور المُقاومة" وإسرائيل.

في غضون ذلك، وعلى الرغم من إعتبار بعض الأطراف أنّ التطوّرات المَيدانية قد طوت نهائيًا مشاريع تقسيم سوريا إلى دويلات مذهبيّة وعرقيّة صغيرة ومُتناحرة، فإنّ الكثير من التقارير الصحافيّة وتلك الإستخباريّة والدبلوماسيّة المُسرّبة لا تزال حتى تاريخه تتحدّث عن أن لا حلّ نهائي للأزمة السورية إلا بالتقسيم، بغضّ النظر عن المساحات الجغرافيّة التي ستُمنح لكل طرف في نهاية المطاف. ولا شكّ أنّ عمليّات شدّ الحبال بين روسيا والولايات المتحدة الأميركيّة ستبقى قائمة إلى حين الإتفاق على الصيغة النهائية لعمليّة تقاسم "قالب الجبنة" السوري-إذا جاز التعبير.

في الختام، وبغضّ النظر عن القرارات التي ستصدر عن مؤتمر آستانة الجديد، الأكيد أنّ موعد الحل الجذري للحرب السورية لم يحن بعد، والأكيد أنّ معارك جديدة في إنتظار سوريا، ولو في مناطق مُحدّدة، لكنّ أهميّتها إستراتيجيّة لأكثر من طرف إقليمي ودَولي.