على صراعٍ سياسيّ، انتهت انتخابات المجلس التنفيذي في ​نقابة المعلمين​ في ​المدارس الخاصة​، رغم أنّ نتائجها أتت مطابقة للتوقّعات. انتصر ائتلاف أحزاب السلطة على "النقابيّ" ​نعمة محفوض​، فاشتبكت الأحزاب السياسية بعضها ببعض.

سريعًا، "احتفل" رئيس "التيار الوطني الحر" وزير الخارجية ​جبران باسيل​ بما أسماه انتهاء "زمن الغوغائية" في نقابة المعلّمين، فيما كان رئيس "الحزب التقدّمي الاشتراكي" النائب وليد جنبلاط يتأسّف على وقوف الجميع ضدّ "النقابي المميّز" محفوض.

وبين هذا وذاك، استعاد كثيرون حادثة "إخراج" رئيس ​الحزب الشيوعي​ حنّا غريب من المشهد النقابي، بسيناريو "مشابه"، وهو الذي لطالما شكّل مع محفوض "ثنائيًا نقابيًا" تشهد عليه "ساحات النضال" في سبيل "سلسلة الرتب والرواتب"، ما دفع كثيرين للتساؤل، هل تكون السلسلة هي "الضحية"؟ وأبعد من ذلك، هل أفرغ ​العمل النقابي​ من مضمونه؟!

التسييس هو القاعدة

لا شكّ أنّ مسألة "تسييس" العمل النقابي في لبنان ليست جديدة، بل تكاد تكون ملاصقة للتركيبة اللبنانية منذ الأزل، وبالتالي فإنّ ما شهدته انتخابات المجلس التنفيذي في نقابة المعلمين في المدارس الخاصة نهاية الأسبوع الماضي من تجاذباتٍ سياسيةٍ لا تزال ارتداداتها مستمرّة حتى اللحظة لا يمكن أن يكون غريبًا أو غير اعتيادي، بل على العكس من ذلك، يبدو أمراً أكثر من منطقي وطبيعي.

هكذا، لا يبدو مشهد انتخابات نقابة المعلمين مختلفاً عن غيرها من الاستحقاقات الانتخابيّة اللبنانية الأخرى، نقابيّة كانت أم حتى طلابية، فطابع التسييس هو القاعدة وليس الاستثناء، بل إنّ خلو معركةٍ انتخابيّةٍ، بمُعزَلٍ عن طبيعتها، من الأبعاد السياسية هو الشواذ. وتكاد الأمثلة على ذلك لا تُعَدّ ولا تُحصى من انتخابات النقابات المختلفة، وعلى رأسها المعركة التي شهدتها انتخابات ​نقابة المهندسين​ مؤخراً، كما انتخابات ​نقابة المحامين​ والأطباء وغيرها، من دون أن ننسى الانتخابات الطلابية، في مختلف الجامعات، علمًا أنّ آفة "تسييس" مثل هذه الانتخابات كانت السبب الأساسي الذي دفع إدارة الجامعة اللبنانية إلى "تعليق" انتخاباتها لسنواتٍ عديدةٍ، في إجراءٍ لا يمتّ للديمقراطية بصلة.

ولا يمكن لأحد أن ينكر أنّ هذا "التسييس"، الذي طبع أيضًا معركة انتخابات نقابة المعلمين، لطالما كان "القاعدة" في الانتخابات نفسها في الدورات الماضية، فالتوافق السياسي الذي ترجم بلائحة "التوافق النقابي" وشكّل "انقلاباً" على النقيب السابق نعمة محفوض، مطيحًا بموقعه النقابيّ، رغم أنّه أثبت مناقبية وكفاءة في إدارته، لطالما كان حاضرًا في انتخابات نقابة المعلمين، بدليل أنّ أيّ معركةٍ طاحنةٍ كالتي شهدها الأساتذة هذا العام لم تحصل منذ أكثر من عشر سنوات، كان التضامن فيها يعلو ولا يعلى عليه.

مخاوف جدية؟

من هنا، يمكن القول أنّ النقيب محفوض، الذي أخرِج من نقابة المعلمين بقوة التوافق السياسي القاهرة، كان نفسه جزءًا من التركيبة إياها في السابق، حيث أنّ التوافق السياسي هو الذي كرّسه نقيباً لسنوات، بل إنّ البعض لطالما كان يحسبه على فريقٍ سياسيّ معيّن، حتى أنّه كان مشروع مرشّح للانتخابات النيابية لهذا الفريق. لكن، رغم ذلك، أسئلة كثيرة تُطرَح اليوم عن أسباب ودوافع "الانقلاب" على الرجل، بالشكل الذي حصل، وتداعياته على نقابة المعلمين وغيرها من النقابات مستقبلاً.

عمومًا، فإنّ ما حصل مع محفوض، معطوفًا على ما كان يحصل مع "زميله" ​حنا غريب​ في السابق، يثير الكثير من المخاوف الجدية والمشروعة على العمل النقابيّ ككلّ، وعلى سلسلة الرتب والرواتب التي لطالما رفع الثنائيّ لواءها، وبُحّت أصواتهما في سبيلها، وبقيت رغم ذلك "شعارًا" تستخدمه الطبقة السياسية عند اللزوم. وقد تكون الخشية الأكبر هنا تكمن في تحويل هذه السلسلة إلى ما يشبه "الرشوة الانتخابية" المعلّقة بانتظار توظيفها سياسياً أو انتخابياً أو شعبوياً بما يخدم أجندة الأحزاب السياسية، التي باتت تطبق على النقابة من رأسها حتى أخمص قدميها، وهنا بيت القصيد.

ولعلّ ما يزيد من جدية ومشروعية هذه المخاوف أنّ "التسييس" لم يعد حكراً على الطابع العام للمعركة، بل امتدّ ليطال جوهر الصراعات السياسية، وهو ما عكسته التصريحات "الحادة" التي صدرت بعد إعلان النتائج، سواء عن "التيار الوطني الحر" بشخص رئيسه الوزير جبران باسيل، أو عن "​الحزب التقدمي الاشتراكي​" بشخص رئيسه النائب وليد جنبلاط وعددٍ من القياديّين فيه، ما أوحى وكأنّ الأمر لم يعد يقتصر على تداخل الشأنين النقابي والسياسي، كما كان يحصل دائمًا، بل إنّ العمل النقابي أفرغ من مضمونه بالكامل، وسيطر العامل السياسي عليه بشكلٍ مطلق.

أين "الغوغائية"؟!

قد يكون من حقّ الوزير جبران باسيل أن "يحتفل" بانتصار مرشحه لنقابة المعلمين، وقد يكون من حقّ آخرين "الأسف" لنتيجة انتخابات أقصت نقابيًا كنعمة محفوض بشكلٍ لا يليق ربما بما يعتبرها كثيرون تضحياتٍ جمّة قدّمها للنقابة.

ولكن، وأبعد من الحقوق المتبادلة، لماذا استنفرت القوى السياسية في مواجهة محفوض كما فعلت؟ وأبعد من ذلك، لماذا ذهبت بعيدًا في دخولها على الخط النقابيّ لحدّ الحديث عن "غوغائية" كانت سائدة في ظلّ حكم نقيبٍ كان أصلاً منتخَبًا من المعلمين، تمامًا كحال النقيب الجديد؟ وأليست "الغوغائية" الحقيقية هي حين تفرض السياسة نفسها على انتخابات نقابية، فلا يكترث أحد لشؤون النقابة بقدر الاهتمام لتحقيق انتصار سياسي سينتهي مفعوله سريعًا؟!