ليس هناك أبلغ من تقريب المسافة بين الفم والأذن عند التحاور، عندها يختلط الوطني بالمقدّس أي بنسق القيم أي بالبقاء الصلب للأقصى كما ل​كنيسة القيامة​. هذه المسافة باتت غير موجودة بين دول العالم الممثّلة بزعمائها. وكأنّ هناك كلمة سرّ دولية "حضارية" كافرة تصبّ غضباً وتدميراً فوق الرؤوس تفرّغها من القيم البشرية. كان ينقص المصلّون أن يدخلوا عراة فرداً فرداً الى مساجدهم بهدف الصلاة التي لن تحصل لكثرتهم إلاّ مرّة واحدة في الشهر. ماذا يعني أن تنصب "​إسرائيل​" كلّ هذه التقنيات الدقيقة أمام أبواب الأقصى؟ أهي ثقافة القهر والإذلال والتحدّي حيال شعوبٍ منقسمة ضعيفة أو هي المجاهرة الفاخرة بتصنيعها لتلك التقنيات وتصديرها وبيعها الى أسواق الأرض الكبرى فيها والصغرى؟

كل يوم نتصبّح بكارثة في هذا المحيط/الإقليم تنسلّ وتعسّ وتندفع بعدها المظاهرات والإحتجاجات والرفض والتصريحات وعندما تتمزّق الحناجر ويتصبّب العرق ليسيل الدميزجّبالرافضين والصارخين نحو السجون أو القبور لأبسط الحقوق بإنتظار فصل جديد في اليوم أو الأسبوع التالي. أليس هو تاريخ العرب والمسلمين منذ ​فلسطين​ ال1948 وما قبلها بكثير؟

أمس بالضبط، كانت وسائل الإعلام الإسرائيلية، ومن بعدها العربيّة والعالمية، تروّج بأنّ تل أبيب باتت المعقل الأكثر تقدّماً في العالم في إختراع كاميرات التصوير وتصنيعها وفق أشكالٍ مختلفة مستقاة من الكائنات الحيّة الموجودة في الطبيعة. باتت إسرائيل الأكثر إقتداراً في تصنيع أدوات تجسس على هيئة ذبابة ونحلة ودبور وعصفور ووطواط وكلّ ما دبّ وهبّ من مخلوقات بهدف التسجيل والتصوير وحصي الأنفاس وتحديد الأفواه ومساحاتها وعدد الأسنان والأضراس فيها وأوقات فتحها وغلقها. لكنّ كلّ هذا لن يفيد في الصراع الأبدي. يغيّر الكثير ويدمّر الأكثر ولكن عندما يبلغ التاريخ أقصاه يصبح دمغةً في الأجنّة فعبثاً تقع النصيحة أو الوصية أو التوسل أو الترحم أو العدالة والإيمان أو الرأفة. يجب الإنتظار في بلاد كلّ شعوبها وفصائلها ومذاهبها موعودة بالإنتظار.

تجاوزتإسرائيل كلّ الخطوط الحمر التي يمكن للمرء أن يتصوّرها في هذا الشرق. أغلقوا أبواب ​المسجد الأقصى​ لأول مرة منذ احتلال ​القدس​ عام 1967، ومنعواالمؤمنين بشرائحهم كافةً من دخوله بل إعتدوا عليهم بالضرب المبرح. وكان لا يمكن لأحد إشاحة الوجه أو تبريرأو فهم فلش تلك القبضة العسكرية المزمنةفوق هذه المساحة الغالية والمقدّسة البالغة 142 كلم2 لأسباب وجيهة متعدّدة لثلاثة أسباب:

1-لأنّ هذه المساحة الصغيرة جغرافيّاًصارت منقوشةأكثر من أي زمن مضى فوق ملامح مسلمي العالم وبلدانهم وتاريخهم وأجنّتهم على الرغم من تلك التشظيات والصراعات المستمرّة التي إبتلوا بها مع "ثوراتهم العربيّة" المستوردةوإنهياراتها ونكباتهم المتواصلة المتنقلة من حقيبة الى أخرى والتي ولّدت مناخاً يقرع أبواب"الحرب الكونيّة" وتفشّي الأرهابيين مع رياح الأرض الأربع.

2- لأنّنا أمام صراع مزمنٍ عتيق طحن الأجيال جيلاً تلو آخرتقضم "إسرائيل"مخاطره بالقطعة،بالمعنى النفسي، منذ معضلة باب المغاربة وليس فقط منذ أعوامإنتقل فيه الهمسإلى النقاشات العلنية في داخل ​الكنيست​، بسلخ الوصاية الأردنية عن الأقصى والتهديد"بحرقه" أو جعله مساحة مجازر مألوفةوصولاً الى حشر المؤمنين بالمسجد القبلي ، ومدّ اليدفوق ساحات المسجد وقبة الصخرة، والظفر بمكانٍ لصلاة اليهود فيه إستنساخاً لما حصلفي الحرم الإبراهيمي بالخليل.

3- ولأنّ السيطرة على المكان أيّ مكانٍ حتّى ولم يكن مقدّساً يعني التمكّن والقوة والسيطرة في قواميس السلطة منذ قايين، وهذه معادلة تحصل في زمنٍ من الوهن أو الضعف العربي والإسلامي.

4- ولأنك ما عدت تعرف أو تنتبه، بل كدت تنسى "إسرائيل"تسبح في إلتماعات "الريق الحلو" الذي يشجّعهاسواءّ أكان فوق ألسنة رؤوساء دول عظمى أو مندوبي ​مجلس الأمن الدولي​ المجاهرةبعدم إدانة الاحتلال على ممارساته في القدس ضارباً عرض الحائط لكل القوانين الدولية والإنسانية أو عبرالقراءة الأفقيّة لردود الأفعال المعتادة من إدانات ورفض وصمت عربي وإسلامي لا يغيّر في الواقع شيئاً.

سأخرج من دمغة الأجنّة التي أشرت نحورومادمغة المسيحيةحيث رأس ​الكنيسة الكاثوليكية​ في العالممعتبراً أنّ الأقصى مسألة لا تعني الفلسطينيين وحدهم ولا المسلمين وحدهم بل المسيحيين بكلّ ما يعنونه في الوجدان والإستقرارالكاثوليكي والعالمي. وترشدنا القراءة المعمّقةلهذه الدمغة الى حجم المعلومات والسلطات التي تقبض عليها دوائر ​الفاتيكان​ وتديرها وتؤثّر فيها في العالم، تجعل العقل العارف يتمهّل، إن لم يتوجّس، من أن يورث هذا الإقبالالشرس على الشرق تصاعد الدعوات الإنفصالية والتقسيمية عبرتركة مناخ"الثورات العربية" ، ومناخ الحريّة والسيادة والديمقراطية والعدالة الذي يعبّ من معين التجارب الغربية.هذا الإنقسام الفكري لا يعنيني كمسيحي، بل يعنيني أكثر أن أسمع صوت الفاتيكان ومسيحيي العالم ومواقفه تصدح في العالم حيال ما يجري في الأقصى. فالتجربة المريرة الرائجة تفصح على الملأ أنّ لا تمييز بين الأديان مسيحية أكانت أم مسلمة في قاموس نبش الحقوق الدينية والترويج لها.

ليس الفاتيكان دولة صغيرة ممدودةلإشارات السلام والإستقرار وحسب،وليست يداً يتوق المؤمنون إلى تقبيلها ، بل هي نافذة مفتوحة على دوائر القرار في العالم، يطلّ من خلال منظر الأقصى على جروح المسيحيين أيضاً في الشرق،فيعلن الشهادة والشراكة مع فلسطين كما معالمسلمين. وقد يكون في صوته عن الأقصىقادراً على حفر إرشاداته في المحيط للمساهمة الفعّالة في خرط مستقبل المسلمينوالمسيحيين ومقدّساتهم في القدس كما في دول المنطقة، والحفاظ عليهم أصحاباً لكلمتي الله الثانية والثالثة،وفتح باب الحوار المقدّس مجدداً .