في حلقة من حلقات «كلام الناس» الأخيرة والتي خصَّصها الاستاذ مارسيل غانم للقاء مفتوح بين أصحاب الاستثمارات العقارية والشباب الجامعي الذين هم على أبواب التخرّج والانطلاق الى سوق العمل، صُدم المقدّم المحنّك برغبة الشباب المشارك الجامحة بترك لبنان الى أن استشاط غضباً من أحد الشباب الذي قال صراحةً معبّراً عمّا يخالج قلوب الكثيرين منهم بأن لا شيء يربطه للبنان.

غضب غانم ناتج عن رؤيته لجيل كامل معلّم يطلّق وطنه وربما أيضاً عن غصة خاصة يعيشها كونه يودع أقارب له قرّروا العيش في بلاد الله الواسعة بعدما سُدّت امامهم جميع الأبواب في لبنان.

لنكن واقعيين، فإنّ تصريحات هؤلاء الشباب ليست وليدة لحظة غضب ولا يمكن اعتبارُها حالة معزولة. نحن أمام جيل لم يعد يرغب بالعيش في لبنان، والأخطر أن لا شيء يربطه بهذا الوطن. جيل لا ينتمي الى 10452كلم2.

ولعلّ الحديث الذي دار بين أب وولده الذي قرّر السفر وكنتُ شاهداً عليه يحمل في طياته الهواجس الحقيقية لهؤلاء. فحينما انبرى الوالد المسكين ليقنع ولده بالبقاء في لبنان جاوبه الشاب وبهدوء: «حينما تستطيع أن تقبض مستحقاتك من وزارة المهجرين أنت وغيرك من أهل قريتنا وتقفل هذه الوزارة أبوابها، أفكر في العودة.

كيف تريدني أن أبقى في بلد لديه وزارة للمهجرين وملفات لهم بعد نحو ثلاثين سنة من انتهاء الحرب». وأضاف: «ربما لم يقفلوها لنشعر أنّ الحرب والتهجير على الأبواب لذلك أختار الهجرة بإرادتي»... هذا التصريح الذكي يضعنا أمام جيل من الشباب المتعلّم فقَد الأمل بوطنه ويشعر بالغربة عنه.

والأسوأء من كل ذلك، أنّ البعض يدرك هذا الواقع ويستغلّه. فلكي تجذب الجامعات الخاصة الطلاب اليها، تفتخر بأنّ خرّيجيها يستطيعون إيجاد فرص عمل في أسرع وقت ممكن في بلاد متقدّمة، وهذا الاستغلال لا يقتصر على الجامعات الحديثة وإنما ايضاً على تلك العريقة منها والتي أنتجت فكرة لبنان الذي نعرفه...

كما أنّ الساسة لا يتوانون عند زياراتهم الى الخارج، أن ينوّهوا بالهجرة وبالامتداد اللبناني في أقاصي الأرض من دون أن ننسى دورهم الفاعل في استنباط اليأس من وطن الأرز بسبب فسادهم وتعنّتهم وعجرفتهم.

والمصيبة أنّ الهجرة لم تعد تقتصر على دول الخليج وبلدان افريقيا، فأوروبا تستوعب عدداً كبيراً منهم، وكذلك كندا وأوستراليا والولايات المتحدة، والمسافر الى تلك البلاد مشروع هجرة لا عودة منها. وهذه الهجرة تطاول الجنسين ولا تفرّق بين شاب وفتاة... والأهل إما يشجّعون عليها أو يقفون عاجزين عن ردع فلذات أكبادهم من تحقيق مستقبلهم في أماكن أخرى.

ولكن للنظر بواقعية الى الأسباب الحقيقية لجيل لا ينتمي... وبعيداً من المشكلات والصعاب الاقتصادية التي تلعب دوراً كبيراً في قرار هؤلاء... لنطرح الأسئلة التالية: هل هناك مَن ينمّي حسّ الانتماء لدى هؤلاء؟ ألم تفشل المدارس والجامعات في لعب هذا الدور؟

هل هنالك شباب يندفعون للدخول الى الأحزاب خصوصاً تلك التي كانت تتّكل عليهم لرفدها بالدماء الجديدة والأفكار الثورية؟ يكفي صرخة تلك الشابة بوجه والدها المتحزّب للتعبير عمّا يشعرون به حيالها حينما قالت له سأسافر وأجمع ثروة لأشتري بها مركزاً لم تستطع بنضالاتك أن تصل اليه.

هل إنّ السلطة الدينية تقدّم المثال الجيد لفكرة الانتماء عبر تركها الأرض بوراً أو تأجيرها من أصحاب المشاريع الريعية مع ما تشكل الأرض من رمز أساسي للتجذّر؟ وأخيراً هل إنّ الجمعيات الأهلية المتعدّدة الأوجه ما زالت تمثّل مثالاً لهؤلاء مع كل أخبار الفساد الذي يضربها والصراعات على مراكز القرار داخلها.

ولعلّ العلاج الأول لهذه الظاهرة هو الاعتراف بأننا امام «جيل لا ينتمي»، يخاف أن يكون مصيره كما «الجيل القلق» الماثل أمامه... جيل يثور على واقعه على طريقته الخاصة متأثراً من دون أن يدري بمسرحية الرحابنة «ناطورة المفاتيح» تاركاً وراءه وطناً وشعباً وأمّة... وعند الاعتراف بهذا الواقع المرير قد نتمكّن من البدء بإيجاد الحلول...