بالـ"عَونة"، عمر الزحليون منازلهم المحروقة على يد العُثمانيين وحُلفائهم، في أحداث العام 1860. ولذا يُقال إن الزحليين تسودهم روح المحبة، إذ إنهُم تعاوَنوا في إعادة بناء منازلهم...

ولكن "في ما بعد، فقد أفسَدت السياسة كُل شيء" على ما يُؤكد الأرشمندريت الدكتور إيلي بو شعيا، في حديثه إلى وفد من مُدرسي "مدرسة المُخلص" - بدارو وإدارييها، زاره في زحلة في حزيران الفائت.

أضاف بو شعيا: "رسالة العذراء مريم، في هذا الإطار، يفهمها الزحليون، على اعتِبار أن نجاة كنيسة السيدة من الحرائق الشاملة والكاملة التي لم يسلم منها منزل، أو دار عبادة، أوكنيسة في زحلة... رسالة من السماء تدعو الزحليين إلى العودة إلى بلدتهم، سريعا ومن دون أي تردُد"...

لقد تيَقن الزحلييون أن السيدة العذراء تنتظر بنيها في "كنيسة النجاة" الناجية من الرماد... وأكثر من ذلك، نشأَت لدى الزحليين فكرة تشييد تمثال لسيدة النجاة، على أرض مُطلة من بلدتهم.

وفي العام 1958، زمن "الثورة" في لبنان، بقيت زحلة عصية على امتِداد الأحداث إليها، على رُغم انسحاب تلك الأحداث على كُل البلدات والمناطق اللُبنانية... ما دفع بالمطران أفتيموس يواكيم، إلى جمع الشبيبة لتقديم الشكر إلى العذراء التي لم تدع الحوادث الأمنية تصل إلى زحلة.

إن الشُكر بالنسبة إلى سيادته لم يكُن مُقتصرا على زمن الحُروب، بل وينسحب أيضا على "النجاة" من ويلاتها...

وكذلك بدأَت تنضج فكرة تكريم سيدة النجاة بإشادة تمثال لها في رُبوع مُطلة من بلدة زحلة.

ولاحقا، وقع الاختيار على قطعة أرض تعود ملكيتها إلى آل "سرور"، غير أن هؤلاء قد هجروا زحلة إلى "أميركا". وهُنا أخذ المطران على عاتقه السفر لمُقابلة أصحاب الأرض والتفاوض معهم... وبعد نيف وشهر من السفر بحرا، وصل المطران يواكيم إلى منزل آل سرور هُناك.

في البداية طالب أصحاب الأرض ببدل مالي لقاء منح أرضهم لتشييد تمثال العذراء عليها. ومن ثم، تم التوصُل إلى اقتراح يقضي بشراء أبناء زحلة الأراضي الواقِعة في مُحيط المكان المُختار لتكريم العذراء، في مُقابل أن تمنح عائلة سرور أربعة آلاف متر أرضا، لرفع التمثال ضمنها. وهذا ما تم فِعلا...

المرحلة التالية كانت صناعة تمثال السيدة العذراء، على يد الفنان الإيطالي الشهير آنذاك، بيروني.

ومرة جديدة تابع المطران يُواكيم شخصيا هذه المهمة، وسافر بحرا إلى إيطاليا... ولكن هذه المرة، كان برفقته مطران صيدا باسيليوس الخوري الذي ذهب بمهمة "التوصية" على تمثال آخر للسيدة ليُنصب في مغدوشة (سيدة المنطرة)!.

المطران يواكيم أراد أن تحمِل عذراء زحلة ملامح شرقية. وقد كان سيادته يتمَتع بموهبة التواصُل المُؤثر مع الآخرين، والحديث الشيق، ما دفع بالفنان الإيطالي إلى طلب زيارة زحلة، لفرط الإعجاب بما سمعه من المطران!. وقد تم ذلك بالفعل.

ويُذكر في هذا الإطار أن الشاعر الزحلي الكبير سعيد عقل، اجتمع ببيروني في بردونة زحلة. كما وحضر اللقاء أيضا الفنان نجيب حنكش.

وبعد جُهود مُضنية، وصل تمثال سيدة النجاة إلى زحلة: وزنُه سبعة أطنان ونصف الطن، طولُه تسعة أمتار، وأما قاعدتُه فترتفِع عن الأرض خمسة وسبعين مترا.

لقد باتت المهمة الآن رفع التمثال وتثبيته... فيما عجزت عن ذلك طائرة مروحية، بسبب ثقل الوزن وعدم إمكان التحكم بنقل التمثال الضخم.

لذا، فقد استُعين بونش ممهور باسم الـ "عيتاني"، استُقدم من مرفإ بيروت. والونش يعمل –كما هو معلوم- على البَكَرَة (POULINE). وكُلما تحركت البَكَرَة، ارتفع التمثال.

راح الناس ينظرون إلى ما يُجرى في دهشة، في حين أن التمثال ما كاد يصل إلى الارتفاع المطلوب، ولم يبقَ أمامه إلا حوالي خمسة وعشرين سنتمترا، حتى توقف فجأة عن الارتفاع.

وعبثا حاول العُمال رفع التمثال أكثر، ومن دون جدوى.

وقد طُلبت حينئذ مشورة المطران يواكيم الذي أوعز إلى المُؤمنين بأن يركعوا، في أماكنهم، ويُصلوا...

وحين بدأت الصلوات... حدثت المُعجزة، وانتقل التمثال تلقائيا، إلى قاعدته، بطريقة عجائبية!...

وفي هذا الإطار قال الأرشمندريت بو شعيا: "أكثر من مئتي شخص، أدلوا أمامي (خلال خدمته الكهنوتية)، بشهاداتهم عن تلك الأُعجوبة. وأحدهم يُدعى جورج ماروني".

ونقل بو شعيا عن ماروني قوله: "رأيت السيدة العذراء وكأنها قطعة خشبية تم إنزالها إلى أسفل المياه، ومن ثم عادت وطفت على السطح"...

سأله بو شعيا: "لماذا أعطيتني هذا التشبيه تحديدا؟"...

-"عبرت على هذا النحو كوني نجارا"!.

وبالعودة إلى الأُعجوبة، فقد أمسك الفنان نجيب حنكش بمكبر الصوت وأخذ يقول: "في عجيبة... كتر خيرِك يا عدرا"...

ومن ثم راح المُنادي يُنادي: "بدنا نبلش نجمع مصاري حتى نبلش نعمرو (للمقام)، ونكبرو"...

وتابع: "... بطرس 200 ألف تبرُع؟... 200 ألف... حنا 500 ألف... طانيوس 400 ألف"...

وفجأة صرخ المُنادي: "عجيبة أُخرى سيادة المطران... عجيبة ثانية: نجيب حنكش (المشهود له ببُخله) تبرع بليرتين اثنتَين"...

أخرج الأرشمندريت بو شعيا، في ختام لقائه زائريه من "مدرسة المُخلص" – بدارو، إحدى هاتين الليرتين قائلا: "عمرنا بليرة وهيدي الليرة التانية... عجيبة"!.

وبروح النكتة اختُتمت سيرة ناصعة من تاريخ زحلة الإيماني الكاثوليكي الملكي!.