تعدد ​الاجهزة الامنية​ والعسكرية، هو امر طبيعي في كل بلد لان الكثير من المشاكل تطرأ ويجب تخصيص جهاز لمعالجة انواع محددة من المشاكل بسبب تنوع الارهاب والخطر المتربص. وقد اثبتت التطورات والاحداث ان التنسيق العالي بين هذه الاجهزة امر لا بد منه من اجل الوصول الى الغاية المنشودة وهي الاستقرار الامني.

ازاء هذا الوضع تحركت دول عديدة وعلى رأسها ​الولايات المتحدة الاميركية​ وانشأت جهازاً يتولى التنسيق والربط بين مختلف الاجهزة الامنية الاخرى اطلقت عليه اسم "جهاز الامن القومي" (رغم ان الاسم موجود في دول اخرى الا ان المهام المنوطة به تختلف بشكل جذري). ووفق معلومات يتم تداولها، فإن السعودية قد تنشىء جهازاً مماثلاً يضاف الى مهامه التنسيقية تسلم الامن الداخلي للبلاد بكل تفاصيله، ويرتاح بالتالي من التعاطي مع الاجهزة الباقية التي سينتفي سبب وجودها.

في ​لبنان​، سجّلت محاولات خجولة لانشاء جهاز امني جديد يكون صلة وصل بين مختلف الاجهزة، ولكن تم غض النظر عن الفكرة قبل ان تصل الى البحث الجدي وتبصر النور، وذلك لاعتبارات عديدة معروفة ولا تحتاج الى الكثير من التحليل. اول هذه الاعتبارات طبعاً هو الطرف السياسي الذي سيتبع له هذا الجهاز، فهل سيكون منوطاً ب​رئاسة الحكومة​ او بوزارة مستحدثة، وهل سيتبع وزيراً معيّناً لتولي شؤون ادارته ضابطاً؟ وبعد هذه العقبة، هناك عقبة لا تقل تعقيداً وحساسية وهي اختيار الطائفة التي ستتولى رئاسة هذا الجهاز، وهذا السبب كفيل باثارة موجة من السجالات قد تبدأ ولا تنتهي في القريب المنظور.

واذا تم تخطي العقبتين، فهناك مشكلة اساسية تعترض الموضوع وتتمثل بالمصاريف التي ستخصص له وطريقة تمويله، في ظل الشكوى من المؤسسات الامنية حول الشح في موازناتها، وضرورة اقرار زيادات لتبقى على المستوى المطلوب الذي يخوّلها القيام بواجباتها كما يجب.

هذا من الناحية السياسية والنظرية، اما من الناحية العملية، فمن شأن انشاء جهاز امني جديد ان يعقّد الامور اكثر فأكثر، فالاحداث الامنية الداخلية غالباً ما تستدعي تدخل ​الجيش اللبناني​ لحلّها في ظل "تراجع" قوى الامن عن تولي مهامها (ما خلا المشاركة في عمليات ​مكافحة الارهاب​...)، خصوصاً عندما يتعلق الامر باشتباكات مسلحة، فتتحول قوى الامن الى مؤسسة مؤازرة للجيش لضبط الامن. وفي ظل هذا الواقع وتواجد كل من: ​قوى الامن الداخلي​، ​الامن العام​، ​امن الدولة​، الجمارك ومتفرعاتها، يكون من غير العملي ومن غير المحبذ انشاء جهاز جديد لن يساهم بأيّ شكل من الاشكال في حلحلة الامور، ما عدا اتخاذ قرار بتغيير اسم ومهام احد هذه الاجهزة الامنية لتتطابق مع الاهداف الموضوعة.

ومن المعروف ايضاً ان ازدياد اعداد الاجهزة التي تتولى الملفّات الامنية من شأنه اضعاف فعالية محاربة الجرائم والارهاب، لان الاعمال الادارية والرغبة في اثبات الوجود على حساب الآخرين، ستؤدي حتماً الى تشتت معلومات مفيدة وضياعها بين المسؤولين الامنيين والسياسيين، وبالتالي سيتم تقويض الاستقرار الامني بدل تعزيزه.

لكل هذه الاسباب وغيرها، فإن طرح فكرة "جهاز الامن القومي اللبناني" لن تصل الى حدّ البحث بها جدياً، وبالاخص في ظل الظرف الراهن الذي تتصاعد فيه المطالبات بالتخفيف من الاعباء المالية، وبالحفاظ على مصالح الطوائف، وبعد نجاح التجربة اللبنانية بالتنسيق الامني لمكافحة الارهاب والتصدي للارهابيين عسكرياً واستخباراتياً ما ادى الى تفكيك العديد من الشبكات، والانطلاق بما اصطلح على تسميته "الامن الاستباقي" وقد ادى الغاية منه، ما انعكس استقراراً امنياً في لبنان لاقى ارتياحاً كبيراً في الداخل والخارج على حد سواء.

وعليه، يبدو ان انشاء الجهاز المذكور آنفاً، ستترتب عليه مشاكل اكبر واكثر بكثير من عدم انشائه وابقاء الوضع على ما هو عليه حالياً.