الغارقون في بؤسهم اليوم هم المهزومون في الميدان، السياسي منه أو العسكري، وتالياً الشعبي. هؤلاء يتحوّل الخطأ عندهم إلى خطيئة قبل أن يصير ارتكابات شنيعة. هؤلاء لا يعترفون بالتاريخ، ولا يجيدون صناعة حاضرهم، ولا ترك شيء مفيد للمستقبل. وهؤلاء، في زمننا الحالي، هم الذين يسعون إلى تأبيد السيطرة على بلاد وعباد، وفق ما تركها الاستعمار قبل سبعين سنة لا أكثر.

لعقود كثيرة، كان العيب في مشاريع الثورات والمقاومات أنها لا تجيد التوفيق بين السيادة والاستقلال الوطنيين، وبين كرامة وتطور دولها، وبين سعادة شعوبها. وهي أزمة حقيقية ولا تزال قائمة إلى يومنا هذا. مع فارق لافت، هو أنّ ما نشهده منذ سنوات قليلة، يفتح الباب أمام فرصة جدية لإعادة صياغة المشهد برمته، وأمام محاولة إلزامية لمواءمة إلزامية بين معركتي التحرير والتغيير الداخلي.

إذا كان الاستعمار ومؤامراته وفساد حكومات وسلطات وقيادات وخيانتها، ونزق أنظمة وجيوش وعنفها، قد جعلت الوحدة العربية كابوساً لا يرغب فيه مواطن حر، فإنّ الاستعمار نفسه سعى طوال الوقت لخلق كيانات تحتاج إليه للبقاء على قيد الحياة. هذا طُبّق بقوة في كثير من بلداننا خلال العقود السبعة الماضية. وهو حقيقة تتعرض اليوم لمحاولة تفكيك جدية، تفتح الباب أمام فرصة لتنظيم عملية توحد قابلة للحياة، ومستندة إلى فكرة وخطاب وهدف. وربما تتيح المعركة المفتوحة ضد ​الارهاب​ والاحتلال، من فلسطين إلى لبنان فسوريا والعراق، الفرصة لبرمجة الأولويات والنقاش بطريقة مختلفة.

صحيح أن في لبنان من يستمر هاجساً بشعار لبنان أولاً، علماً بأن شعار فلسطين أولاً لم يوقف تهجير الشعب الفلسطيني وتهويد أرضه.

ومحاولة بعض العراقيين تجاهل محيطهم العربي بحجة أن المحيط ناصَر الطاغية، جعل بلاد الرافدين تتفكّك بقسوة، وتجعل نكبة هذا البلد أشدّ إيلاماً من نكبة فلسطين. ومن باب الإنصاف، تبقى سوريا الدولة الوحيدة التي لم تغرق في انعزالية قاتلة. ولهذا السبب، تدفع اليوم ثمن تمسّكها بموقعها المتفاعل مع كل محيطها العربي.

ليس قدراً فقط أن تخرج من لبنان مقاومة، نمت وتعثرت وعادت فقامت، وناضلت وانتصرت على المحتل. لكنه تعبير عن قدرة حقيقية على تقديم نموذج قابل للحياة والتعميم في مقاومة الاحتلال، وفي ضرب الهيمنة على البلاد. وعندما لجأ الاستعمار إلى استخدام الحروب الأهلية سلاحاً في مواجهة المقاومين، كان لا بد من خوض معركة بأدوات وأفكار مختلفة، تجعل الحرب الأهلية تخمد وإن احتجنا إلى سنوات طويلة لإزالة أثارها، لكن هذه المقاومة أعطت الدليل على إمكانية توحد قوى منتشرة في كل هذا المشرق، متفقة على أولوية التحرير من الاستعمار والاحتلال، ومؤمنة بالحاجة إلى تغيير شامل. وهو تغيير لا يكون من دون تفاهم مع المحيط الأرحب. وهنا يقع دور إيران.

صحيح أن من حق الناس الخشية من عجز هذه القوى عن قيادة تغيير داخلي حقيقي. وصحيح أن معركة بناء الدول تتطلب مشاركة الجميع من أبنائها، لكن الصحيح أيضاً أن ما يحصل اليوم يمنحنا فرصة لأن نحفظ انتصاراتنا على الاحتلال وأعوانه من عملاء مدنيين أو عسكريين، علمانيين أو متطرفين. وحفظ هذه الانتصارات يكون بالتعامل بجدية واهتمام مع مرحلة مقبلة أكثر أهمية، لجهة توفير الترابط العضوي، عسكرياً وسياسياً واقتصادياً وثقافياً أيضاً، بين مساحات وشعوب وهويات باتت ملزمة بالبحث عن سبل العيش معاً بأفضل الممكن. وهنا التحدي الكبير.

ما يحصل منذ انطلاقة المعارك الكبرى في العراق وسوريا ولبنان لطرد المجموعات الارهابية على اختلاف مسمياتها، لن يكون مجرد جولة فقط، بل هو مدخل لتحويل التفاهمات والتوافقات مناسبة لتحقيق هدف بات أكثر واقعية من قبل، يخصّ استعادة فلسطين بكاملها من أيدي الاحتلال والاستعمار. وهو إنجاز سيكون نتيجة سلوك طريق التحرير.

إنه الطريق الذي لم يجد إيرانيون وعراقيون وسوريون ولبنانيون وفلسطينيون بداً من عبوره مجتمعين، لمحاربة الاحتلال وأدواته في كل هذه الدول، وهو طريق تم وصله بدماء هؤلاء وتضحياتهم، وهو الطريق الذي يحتاج، منّا، إلى حفظه بالدماء والتضحيات أيضاً.

فعليّاً، بدأت المجموعات المسلحة في الاستفادة من طرق التهريب، بدءاً بريف حمص منذ حزيران 2011 وبشكل تصاعدي شمل سريعاً ريف دمشق (قارة) منذ تموز 2011. وتوسعت في أيلول وتشرين الأول، وصولاً إلى السيطرة على القصير وتل كلخ قبل نهاية العام. بين شباط ونيسان 2012، كانت أجزاء واسعة من ريف حمص المتاخم للحدود اللبنانية قد تحوّلت إلى قبضة المجموعات المسلحة، تشابهها في ذلك مساحات كبيرة من القلمون. وقبل نهاية العام، كانت النسبة الأكبر من الحدود السورية اللبنانية في قبضة المجموعات.

بدءاً من أيار 2013، بدأت الأمور تتغير مع استرجاع القصير، ثم تل كلخ ومعظم المناطق الحدودية في ريف حمص. ثم حررت في عام 2014 مناطق مهمة في القلمون، على رأسها قارة والنبك ويبرود ورأس العين، ثم فليطة ورأس المعرة وعسال الورد ورنكوس. أواخر 2014، وضع «داعش» قدماً في القلمون الغربي مع حصوله على عدد من «البيعات»، ونجح في توسيع عديد مسلحيه هناك، قبل التحول الكبير الذي تمثل في معارك متزامنة على الجبهتين السورية واللبنانية.

من محيط البوكمال، بدأت الحكاية في تموز 2011 مع بدء ظهور مسلحين على شكل عصابات. في النصف الثاني من العام 2012، سيطرت المجموعات المسلحة على معبر البوكمال الحدودي. وفي عام 2013 خرج معظم الشريط الحدودي بين دير الزور والعراق عن سيطرة ​الجيش السوري​، وبشكل سريع انضمت إليه أجزاء من المناطق الحدودية في ريف الحسكة. كانت القبضة الأقوى ل​جبهة النصرة​ حتى حدوث الشقاق الكبير مع «داعش». دخل الأخير على خط الولاءات و«البيعات» بقوة، وبدأ في التمدد منذ تشرين الثاني 2013، مركزاً على الشريط الحدودي تحديداً بالاستفادة من سيطرته على المناطق المقابلة داخل الأراضي العراقية. بدءاً من آذار 2014، بدأ التنظيم في توسيع هوامش الشريط الحدودي تباعاً، إلى أن تمكن من ابتلاع المنطقة الحدودية بأكملها، وصولاً إلى إعلان «الخلافة» في حزيران عام 2014. أما «وحدات حماية الشعب» الكردية، فكانت قد بدأت بفرض حضورها في الحسكة في الأشهر الأولى من عام 2013، لتسيطر على مناطق الريف الشرقي المحاذية للحدود العراقية، قبل أن تبدأ في النصف الثاني من عام 2015 في توسيع تلك السيطرة على حساب «داعش» الذي بات حضوره الحدودي مقتصراً على دير الزور، بينما نجح الجيش السوري أخيراً في الوصول الى الحدود العراقية.

الحدود الجنوبية مع الأردن والجولان المحتل

لعبت الحدود الجنوبية مع الأردن دوراً مؤثراً لمصلحة المجموعات المسلحة، بداية عبر طرقات التهريب، ثم مع بدء المناطق الحدودية في ريف درعا الخروج عن سيطرة الدولة مع أواخر عام 2011. خلال عام 2012، حصلت معارك كر وفر كثيرة، تماثلها في ذلك محافظة القنيطرة. وفي نيسان 2015 على معبر نصيب، حضرت «جبهة النصرة» بقوة في المنطقة، رغم ظهور غرفة «الموك» في الأردن التي قيل إن الهدف منها دعم «الفصائل المعتدلة». وفي خلال عامَي 2015 و2016 سيطر المسلحون على أجزاء واسعة من الحدود بين محافظة السويداء والأردن. وخلال الشهر الحالي، برز تحول بارز مع استعادة الجيش السوري السيطرة على جميع المخافر الحدودية في محافظة السويداء.

بين أيلول وتشرين الأول 2011، بدأ مسلحو الريف الإدلبي في الظهور بشكل جماعات صغيرة استفادت من طرق التهريب على الحدود مع تركيا، وما لبثت الجماعات أن توسعت ونُظّمت وراحت تفرض سيطرة قوية على المناطق الحدودية في ريف إدلب الشمالي، بدءاً من مطلع عام 2012. وعلى نحو مماثل، تطور الأمر في ريف اللاذقية الشمالي، ثم في ريف حلب الشمالي وريف الرقة الشمالي. وفي النصف الثاني من العام، وقعت مناطق استراتيجية عدة في قبضة المسلحين مثل معبر باب الهوى (ريف إدلب)، معبر باب السلامة (ريف حلب) ومعبر تل أبيض (ريف الرقة). مع دخول عام 2013، كان الشريط الحدودي مع تركيا بأكمله مقسوماً إلى قسمين أساسيين، الأكبر تتوزع السيطرة عليه المجموعات المسلحة؛ على رأسها «النصرة» و«أحرار الشام» والمجموعات التركمانية، والثاني في قبضة الأكراد، وأبرز مناطقه: عفرين (ريف حلب الشمالي الغربي) وعين العرب (ريف حلب الشمالي الشرقي)، إضافة إلى ريف الحسكة الشمالي. في الربع الأخير من عام 2013، بدأ تنظيم «داعش» في الظهور شمالاً في أرياف اللاذقية وحلب والرقة. عام 2014، سيطر «داعش» على ريف الرقة الشمالي، وباتت الحدود مع تركيا بأكملها متقاسمة بينه وبين الأكراد وبين «النصرة» وشركائها. مع هزيمة «داعش» في معركة عين العرب، بدأت ملامح مرحلة جديدة، شهدت صعود «قوات سوريا الديموقراطية» تحت إشراف «التحالف الدولي»، وبدأت سيطرة «قسد» في التوسع تدريجاً لتصبح منافساً أساسياً على رقعة السيطرة على الحدود مع تركيا. ومع حلول آب 2016، أعلنت أنقرة «درع الفرات» وبدأت في التوسع سريعاً على حساب «داعش» لتتحول «درع الفرات» إلى قوة احتلال مقنّعة.