قرأتُ بدهشة وبشيء من الغبطة خبراً طريفاً ظهر قبل أيام في صحيفة «ديلي تلغراف» البريطانية. الخبر مفاده أنه في ​الصين​ ترتبط كاميرات المراقبة بشبكة الإنترنت عبر مواقع الكترونية تسمح لأيّ شخص بمشاهدة تسجيلاتها، مع عدم مراعاة أيٍّ من قوانين الخصوصية لمن يتمّ تصويرهم. كيف؟

من خلال منصات متعدّدة لعرض المحتويات التي تسجلها هذه الكاميرات على الإنترنت باعتبارها شكلاً من أشكال الترفيه، مع السماح للمشاهدين بتسجيل تعليقاتهم من دون رقابة أو تشفير.

المحتويات تتنوّع وفق مواقع الكاميرات بين الأمكنة السياسية والريفية وتقاطعات الطرق ومواقع ​البناء​ ومحطات الإذاعة ومحالالحيوانات الأليفة. هناك أيضاً كاميرات في الصالات الرياضية وأحواض السباحة والمحال التجارية والمطاعم وحتى داخل منازل الصينيين أنفسهم.

علّقت «ديلي تلغراف» على الخبر الطريف بقولها: «مع انتشار هذه الظاهرة وزيادة عدد المشاهدات، من المتوقع أن تصبح كاميرات المراقبة بمثابة قطاع ترفيهي متكامل».

هل هي كاميرات مراقبة أم كاميرات تلصّص؟ لعلّها الاثنان معاً، لكن النتيجة تبقى واحدة: وداعاً للخصوصية!

من الواضح أنّ كشف تسجيلات الكاميرات يقتصر، حتى الآن، على النواحي السياحية والاجتماعية العامة. لكن مَن يدري، فقد يُصار الى توسيع نطاقها لتشمل ميادين وحقولاً كثيرة في شتى مناحي الحياة العامة والخاصة. فالخبر يشير، مثلاً، إلى كاميرات للرقابة موضوعة داخل المنازل، لكنه لا يفصح عمّا اذا كانت موضوعة هناك بطلبٍ من أصحاب المنازل أم بقرار من القضاء أو الشرطة أو الاستخبارات. أليس من المحتمل أن تقرّر السلطة السياسية في قابل الأيام، لسبب أو لآخر، تعميم هذه الآلية أو الظاهرة لتشمل كلّ مرافق البلاد ومناحي الحياة العامة والخاصة؟

لعلّ السؤال الأكثر غرابة وطرافة هو: هل يمكن أن يمتدّ تعميم هذه الآلية إلى مؤسسات السلطة نفسها، فيصبح في وسع الراغبين مشاهدة ومتابعة تسجيلات كاميرات المراقبة الموضوعة في ​مجلس الوزراء​، مثلاً، أو في قاعات اجتماعات أركان الدولة مع قادة أجانب أو محليين؟

هذا احتمال مستحيل بحسب الثقافة والتقاليد والأنظمة السائدة في عالمنا المعاصر، لكن قد يأتي يوم يحاجج فيه أفرادٌ وجماعات أهلَ السلطة قائلين: اجتماعات وجلسات المجالس النيابية السلطة التشريعية يجري نقلها الآن، في دولٍ عدّة، حيّة بالصوت والصورة إلى الملأ، فلماذا لا يُعتمد الأمر نفسه في المجالس الوزارية السلطة التنفيذية ؟

سيردّ أهل السلطة على هذه الحجة بحجة يعتبرونها أقوى: مقتضيات التفكير والتشريع لا تستوجب، في معظمها، السرّية فيما مقتضيات التدبير والتنفيذ والأمن تتطلّب، في غالب الأحيان، الكتمان والسرية والمباغتة.

أكيد أنّ أحداً لن يطلب السماح بمشاهدة تسجيلات عائدة لإدارات الاستخبارات وأجهزة الاستقصاء ذلك أنها الجهة التي تشرف غالباً على وضع كاميرات المراقبة وتنظيم «متعة» مشاهدتها في الأمكنة والأزمنة التي يحدّدها القانون، فلا يُعقل أن تسمح بمشاهدة تسجيلات الكاميرات اللازمة لحسن قيامها بمهامها، ولا سيما ما يتعلق منها بالنواحي الأمنية.

إذ تجري شرعنة الرقابة بالكاميرات وتعميمها وإجازة مشاهدة تسجيلاتها، فإنّ مفاعيل وتداعيات شتّى ستنشأ عنها، لعلّ أهمّها خمسة:

أولها، إنهاء الخصوصية أو، في الأقلّ، تقليص مداها ما يؤدّي إلى تداخل حيوات الأفراد وتشابكها على نحوٍ يولّد صدامات ومناكفات وفوضى شاملة.

ثانيها، انقسام المجتمعات إلى جماعتين متنازعتين: المراقِبون، أيّ الذين يشرفون على نظام مراقبة الناس، والمراقَبون أيّ الذين يكونون موضوع رقابة، وقد يصبحون تالياً إحدى ضحاياها المحتملين.

ثالثها، تحوّل السياسة تنافساً أو صراعاً مريراً على امتلاك سلطة الرقابة، بما هي القدرة على التأثير أو تعطيل التأثير في شتى مناحي الحياة العامة والخاصة. كما، ربما، القدرة على الإثراء المشروع وغير المشروع!

رابعها، نشوء مهنة، بل تجارة، الإخضاع لآليات الرقابة او الإعفاء والانعتاق منها في شتى مناحي الحياة ومختلف قطاعات ​الاقتصاد​ وإدارة الشؤون العامة.

خامسها، تبلور مدلول مغاير للحرية بما هي حق الانعتاق من الرقابة ما يؤدّي الى نشوء صراعات، وربما حروب، بين معسكر المراقِبين ومعسكر المراقَبين أيّ بين طبقة المشرفين على نظام الرقابة والمستفيدين من امتيازاته وفرصه المادية، وطبقة الموضوعين تحت الرقابة والمُعانين من مفاعيلها وتداعياتها.

هل تنتقل السياسة والسياسيون من عصرٍ هي فيه اليوم مقروءة ومسموعة إلى عصر تصير فيه مرئية ومراقبة ومكشوفة بأبعادها كلها…؟