الفكرةُ من عدم تناول اللحوم يوم الجمعة من كلّ أسبوعٍ في ​المسيحية​، تَرقى إلى بدايات هذه الأخيرة، وتتأسَّسُ على لاهوت هذا النهار العظيم الذي شَهِد صلب ​السيد المسيح​ وموته فداءً عن ​الجنس​ البشري برُمّته. ولهذا السبب، وإكراماً لآلام سيّدهم، اختار المسيحيّون في هذا النهار أن يتألَّموا بدورهم، فلا يُفرِطوا في إنفاقٍ، ولا يبذخوا ولا يتفذلَكوا في طعامٍ وشراب، بل يكتفوا بالقليل القليل مّما يُقيت الجسد، ليتفرَّغوا إلى ما يُقيتُ الرّوح. بيدَ أنَّ هذا المَنع تحوَّل عند العديدين من أبناء وبنات الكنيسة إلى قاعِدةٍ دينيّة أسمى من وصيّة المحبّة نفسها، فاحترموا القاعدة إلى حدود الفريسيّة، وأساؤوا إلى وصية المحبّة.

الكنيسة مليئة بأُشخاصٍ لا يأكلون لحم الحيوان يوم الجمعة ولكنهم ينهشون لحم إخوتهم البشر. أشخاصٍ يُقَدّسون الوصيّة إلى حدود العبادة، ولكنّهم يُزَوّرون الأحكام ويُهملون العدل ويظلمون صاحب الحقّ. يهضمون أُجرة المسكين ويسلبون حقّ البائس. يسمحون لأيديهم بأن تمتدَّ إلى المال العام، ويفتحون جيوبهم القَذرة للرشوة. يستغلّون الضعفاء، وينهبون اليتامى والأرامل، ويجنون أموالهم بالسرقة والإحتيال. يُقوّضون أركان الدولة ويفسدون في الأرض. يفعلون الكبائر ويُكَحِّلون عيونهم بالصغائر، ولكنّهم والحقُّ يُقال، مؤمنون حَنيفون، لا يأكلونَ لحماً يوم الجمعة ولا يُدّنّسون أفواهَهم بِما خلَق الله لهم!.

هل سنُدان على لحمٍ أكلناه يوم الجمعة؟! الحمقى وحدهم يعتقدون ذلِك! ولكنّنا سنُدان بالتأكيد على شَرٍّ أنزلناه بإخوتنا ولا نزال، حتّى ولوأمضينا حياتنا كلّها في صومٍ وصلاة وقطاعة. الإنقطاع عن تناول اللحوم يوم الجمعة لا يُبرّر الإنسان، وليس بالطبع سبب خلاص، بل وسيلة تحسسيّة مع آلآم من تألّم من أجلنا، ليس إلاّ. ما يُبرّر الإنسان هو الإنقطاع عن صُنع الشر والقيام بصنع الخير؛ فالله لا تهمّه قضيّة الإنقطاع عن المآكل، هذا شأن يهمنا وحدنا، بل تهمّه قضيّة الإنسان الذي يجب أن يُقدَّر ويُحَبَّ ويُحترم في حياته وعقيدته وحقوقه وجنسه ولونه وعرقه، وعندها تكون الإماتة المُكَرِّمة لآلام السيد المسيح في محلّها، لأنها تَصل بالإنسان إلى الإنسان، ذاك الذي مات المسيح من أجله.

إذاً، ليست المسألة مسألة طعامٍ أو عَدَمه. فلا الأكلُ يُضيفُ إلى قامة المسيحيّ شيئاً ولا عدمُه يُنقص منها شيئاً، بل المهمّ هو السلوك في الحقّ. فإذا كان تناول اللحوم يجعلُك تسلِك في الحقّ، فكُل ولا تتردَّد. وإن كان انقطاعك عن تناول اللحوم يجعلُك تسلك في الحقّ، فانقطع ولا تتردَّد، ولكن أن تنهشَ لحم أخيك الإنسان الذي مات المسيح من أجله يوم الجمعة، فهو ما لا يعفيك من دينونة ولا يُنجيك من حساب.