لم يغب شبح "​التحالف الرباعي​"، الذي خيضت الانتخابات النيابية في العام 2005 على أساسه بشكلٍ مباشر أو غير مباشر، يومًا عن ذاكرة القوى المسيحيّة، وعلى رأسها "​التيار الوطني الحر​ّ". ولهذا ربما، ومنعًا لإعادة "استنساخ" التجربة، سعى "التيار" في المرحلة الماضية إلى نسج تحالفاتٍ واسعةٍ وشاملةٍ بين مختلف أطراف "الرباعيّ"، لدرجة أنّه اتُّهِم مرّات ومرّات بالعمل على تركيب "تحالف رباعي" من نوعٍ آخر.

لكنّ "شبح" هذا التحالف عاد للظهور من الباب العريض من خلال "لقاء كليمنصو" الذي جمع أطرافه نفسها، أي "​تيار المستقبل​" و"​الحزب التقدمي الاشتراكي​" و"الثنائي الشيعي" ممثّلاً برئيس ​المجلس النيابي​ ​نبيه بري​. وعلى الرغم من إصرار كلّ المعنيّين باللقاء على القول أنّه ليس موجّهًا ضدّ أحد، تُطرَح علامات استفهام حول مغزى تغييب "التيار" عنه، وهو الذي يمثّل جزءًا لا يتجزّأ من السلطة اليوم، وما إذا كانت رائحة "انقلاب" بدأت تلوح في الأفق، خصوصًا أنّ مؤشّراتٍ عديدة تؤكد أن "شهر العسل" بين "التيّار" وشركائه في السلطة شارف على الانتهاء...

الاستقرار أولاً...

مفاجئًا بدا لكثيرين اللقاء الثلاثيّ الذي جمع في كليمنصو كلاً من رئيسي المجلس النيابي نبيه بري والحكومة ​سعد الحريري​ ورئيس "​اللقاء الديمقراطي​" النائب ​وليد جنبلاط​، لأسبابٍ كثيرة، أولها أنّه من لقاءاتٍ "نادرة" يشارك فيها رئيس المجلس النيابي نبيه بري شخصيًا خارج مقرّه في ​عين التينة​، وثانيها أنّه أتى بعد مرحلة "جفاء" بين الحريري وجنبلاط، اللذين ذهب البعض لحدّ الحديث عن "قطيعة كاملة" فيما بينهما.

ولعلّ توقيت اللقاء ساهم في إعطائه دفعًا قويًا، فهو أتى عشيّة جلسة المجلس النيابي التي أعادت إنتاج "قانون ​الضرائب​" بناءً على ملاحظات ​المجلس الدستوري​، الذي كان قد وافق على الطعن المقدَّم بقانون الضرائب السابق، ولكن أيضًا بعد وصول التباينات بين أطراف اللقاء الثلاثة ورئيس الجمهورية العماد ​ميشال عون​ إلى أوجها، ولو تمّ التخفيف من وقعها في الإعلام، علمًا أنّ الكثير يُحكى عن قرارٍ اتخذه الحريري في ضوئها بطيّ صفحة "التحالف الانتخابي" مع عون، وبالتالي "التيار الوطني الحر".

وإذا كان كثيرون رأوا في اللقاء، وانطلاقاً من هذه المعطيات والوقائع، تمهيدًا لتموضعٍ انتخابيّ مختلف وجديد، فإنّ الفرقاء المشاركين فيه يحرصون على التأكيد أنّ أهميته تتخطى الأبعاد والحسابات الانتخابيّة، وهم يشدّدون على أنّه لم يأتِ لتكريس "المصالحة" بين الحريري وجنبلاط، بقدر ما أتى لترسيخ معادلة "الاستقرار أولاً" في ظلّ المخاوف من اهتزازاتٍ قد تحصل على خلفية الصراع الاقليمي الآخذ في التصاعد، علمًا أنّ حصوله بعد خطابٍ للأمين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصرالله أكد فيه وجوب تحصين الاستقرار في الداخل لا يمكن أن يكون محض صدفة.

وعلى الرغم من التصعيد المتبادَل، والذي وصل إلى ذروته، بين السعودية و"حزب الله"، وهو ما تمثّل في الساعات الأخيرة بدعوة وزير الدولة السعودي لشؤون ​الخليج​ ​ثامر السبهان​ إلى قيام تحالف دولي في مواجهة الحزب، وردّ السيد نصرالله المباشر والأول من نوعه عليه، فإنّ مجرّد مشاركة الحريري في هذا اللقاء تدلّ على أنّ القرار بـ"تحييد" لبنان عن العواصف الاقليمية لا يزال ساري المفعول، ما يصبّ في خانة تغليب الاستقرار على ما عداه، بل إنّها تشكّل بحدّ ذاتها رداً على من يقول بأنّ تغريدات السبهان تدلّ على منحى تصعيدي تتّجه البلاد إليه في قادم الأيّام، وتوحي بأنّ ما يقوله الرجل لا يعدو كونه جسّ نبض، بمعنى أنّه لا يعكس أيّ موقفٍ رسميّ، حتى إشعارٍ آخر على الأقلّ.

هواجس في محلّها؟!

ولكن، هل فعلاً يمكن لأحد أن يصدّق أنّ أهداف لقاء ثلاثي يجمع شخصيّاتٍ من نوع بري والحريري وجنبلاط تنحصر في تغليب الاستقرار، من دون أيّ معانٍ أو دلالاتٍ أخرى؟ وإذا كان الأمر كذلك، فلماذا لم يكن اللقاء أوسع، بحيث يشمل الجميع، ولا سيما "التيار الوطني الحر"، المفترض أنّه شريك هؤلاء في الحكم؟.

قد لا تكون "نظرية المؤامرة" في محلّها هنا، إذ يمكن لأيّ لقاءٍ أن يحصل بين الحلفاء والخصوم من دون أن يكون موجّهًا ضدّ أحد، وهذا الأمر من البديهيّات السياسيّة، إلا أنّ الهواجس التي أيقظها هذا اللقاء، بالنظر إلى التجارب السابقة، تجعل من الصعب اعتباره عفويًا أو بريئًا، وتجعله عرضة للتشكيك. ولعلّ توقيته، بحدّ ذاته، يبدو إشكالياً بالنسبة إلى "التيار الوطني الحر" على وجه الخصوص، الذي يخشى أن يشكّل هذا الاجتماع انقلاباً في مكانٍ ما على ​التسوية الرئاسية​ ومقدّمة لتحالف انتخابي على حسابه، خصوصًا أنّه يأتي بعد اهتزازٍ نسبي في العلاقة بين الرئيس ميشال عون وكلّ من بري والحريري، فضلاً عن كون العلاقة مع جنبلاط غير متينة منذ اليوم الأول.

فعلى الرغم من أنّ التباينات التي ظهرت بين عون وبري على خلفيّة قرار المجلس الدستوري الأخير باتت من الماضي، وعلى الرغم من أنّ عون والحريري طويا صفحة "التباين" الذي تصدّر الواجهة مع اللقاء الشهير بين وزير الخارجية ​جبران باسيل​ ونظيره السوري ​وليد المعلم​، فإنّ كثيرين يعتقدون أنّ ما تركته هذه التباينات من النفوس أكبر من أن يتمّ احتواؤها بين ليلةٍ وضُحاها، علمًا أنّ "الكيمياء المفقودة" بين عون وبري، على سبيل المثال، لم تعد خاضعة للنقاش. وإذا كان صحيحًا أنّ "الانفصال الانتخابي" بين الحريري وعون يفترض أن يرتّب انفصالاً بين "الشيخ سعد" و"الثنائي الشيعي" أولاً، ما يعني أنّه لا يمكن أن يحصل لصالح "التحالف الرباعي"، فإنّ هناك رأياً يقول أنّ الرسالة الأساسية التي قد يكون اللقاء حملها بين طيّاته لـ"الشركاء" هي أنّهم هنا، وبالتالي، انّ التفرّد بالقرار من قبل أحد لم يعد جائزاً ولا وارداً ولا مقبولاً.

استخفاف بالعقول...

أبعد من كلّ المصالح والحسابات الانتخابيّة، يكفي بالنسبة لكثيرين أن يكون بري والحريري وجنبلاط هم "أركان" هذا اللقاء، حتى يتسلل "الشكّ" إلى الأذهان، باعتبار أنّهم يمثّلون بشكلٍ أو بآخر "تحالف السلطة" منذ سنواتٍ طويلةٍ، أو بمعنى أدقّ، "الترويكا" التي يرمزون إليها بنظر شريحةٍ لا يُستهان بها من الرأي العام، لناحية التحكّم بالتفاصيل السياسية الداخلية.

وبمُعزَل عن الحكم على النوايا، يبقى الأكيد أنّ تقييد اللقاء في خانة "تحصين الاستقرار" يبدو استخفافًا بالعقول، تمامًا كما توسيع بيكاره ليكون "تحالفاً انتخابيًا" موجّهًا ضدّ فريقٍ هنا أو هنالك، ليس لأنّ الوقت لا يزال مبكراً لذلك، بل لأنّ لا ضمانات حتى الساعة بأنّ الانتخابات سوف تحصل في موعدها، رغم كلّ ما يُحكى في العلن...