لطالما أضحكتني عبارة العماد ​ميشال عون​ الشهيرة قبل أيام من إسقاطه: "يستطيع العالم أن يسحقني، لكنه لن يأخذ توقيعي". سخرتُ مطوّلًا من هذه العبارة التي تحمل كثيرًا من المغالاة والتأليه. يومها وجدتُها "ثقيلة" ليس فقط على عون نفسه بل على أيٍّ كان من ذوي الطبيعة البشريّة. من هو هذا الرجل ليقول إنه لن يوقّع مهما جار عليه الزمانُ وناسُه؟

تكرّست نظرية "تسخيف" العبارة في بواطني كلّما التفتت عيناي صعودًا الى يافطة تحمل تلك الكلمات "الممجوجة". كانت أشبه بآيةٍ من الإنجيل للرجل العماد ولجمهوره. المفارقة البسيطة أن هذه العبارة تقفز اليوم الى ذاكرتي الفردية كما الى ذاكراتٍ جماعية من باب "التأنيب". لستُ نادمًا على تقزيمها يومها، ولكن سأفعل إن قزمتُها اليوم بعدما اتخذ الرئيس ميشال عون قرارًا ثانيًا باللاتوقيع على استقالة رئيس حكومة بلاده إلا بعد فهم حيثيات هذه الاستقالة وبعد عودته شخصيًا الى وطنه.

بات واضحًا بالنسبة الى الشارع ال​لبنان​ي - وأقول الشارع اللبناني بقلبٍ قوي بعدما كان الشارع شوارع- أن التسوية التي أنتجت هدوءًا واستقرارًا ووئامًا لا يمكن أن تستمر من دون ثنائية عون-الحريري. بات واضحًا للشارع السنّي قبل أي شارع آخر أن عون لن يتخلّى عن كرامة الحريري كمواطنٍ لبناني أولًا وكرئيس حكومة ثانيًا وكممثل للشارع السني المعتدل ثالثًا. بات واضحًا للسعودية ولجميع المصطادين في الماء العكِر أن الالتفافين الشعبي والدولي حول قرارات رئاسة الجمهورية يكرّسان انتصار القرار اللبناني ويضغطان في اتجاه عودة الرئيس الحريري الذي يصرّ بعضُ "محبيه" على أنه طليقٌ حرٌّ، لا بل يذهبون حدّ "تعييب" رئيس الجمهورية عندما يتحدّث عن عملية "احتجاز" بعد مضيّ أكثر من 12 يومًا على غيابه وسقوط وعوده أقله زمنيًا بالعودة "القريبة" الى لبنان.

لا يحتاج رئيس الجمهورية الى أبواقٍ تدافع عنه، إذ يكفيه التأييدان الرسمي والشعبي لحكمته التي تكرّست طوال أسبوعين من الحيرة والتعتيم والضياع والحرص على انتقاء المصطلحات كي لا يخدش شعور هذا وحياء ذاك، فيما الحريري يكتفي بالهمس بعودةٍ قريبة لتكذّبه ملامحُ وجهه والتخمينات الدولية المراهنة على إطالة أمد إقامته في المملكة.

ليس لأنه ميشال عون، الذي أثبت أنه رجل دولة وقرار ودستور وأصول بقراره التمسّك بالرئيس ​سعد الحريري​، بل لأنّ الشارع على اختلاف مشاربه يقول ما قاله الرئيس أمس. لأن

الشارع برمّته غاضبٌ وناقمٌ إزاء ما يؤمن بأنه "احتجازٌ" صريحٌ الى أن يثبت العكس. ما المطلوب مثلًا من رئيس الجمهورية أيًا يكن في ظرفٍ مماثل؟ أكان على ميشال عون أن يقبل استقالة الحريري "المشبوهة" ليرتاح بعض المنتقدين ويُريحوا؟ أكان على الرجل الثمانيني أن يتصرّف كابن ثلاثين ويلهوَ بمصير وطنٍ وشعب؟ أكان عليه أن يقبل الاستقالة بصدرٍ رحبٍ ويرجو المملكة ألا "تعاقبَ" لبنان وأن تصفحَ عن ذنوبه وذنوب ​إيران​ المقترفة على أرضه؟ أكان على ميشال عون كي يرضى عنه جميعُ "الغيارى" على الحريري أن يسلّم بعد اثني عشرَ يومًا بأن رئيس حكومة البلاد في رحلةِ استجمام تشرينية مع عائلته وأن قرار استقالته بين ليلةٍ وضحاها من عنديّاته ومن باب "الصحوة" كما حلا للحريري أن يظهّرها؟ أكان على عون أن يعتذر من الحريري وقاعدته ويتركه بحاله ويبيعه بثلاثين من الفضّة؟

ربما كان على عون أن يفعل ما يلمح إليه هؤلاء. ربما كان عليه أن يختار "جاكوزي" للاستجمام في غمرة الأزمة. ربّما كان عليه أن يوقّع "عتم" على الاستقالة ويمضي في تشكيل حكومة جديدة كما طلب إليه كثيرون بالدَوس على جرح الحريري وجرح شارعه وجرحِنا جميعًا... حينها قد يصبح رئيسًا جيدًا و"آدميًا" وحكيمًا في عيون بعض الانتهازيين المقتنعين في قرارات أنفسهم بأن الحريري ليس على ما يُرام ولكنهم لا يجرؤون على البوح بذلك. ربما كان على ميشال عون أن يرتجف رعبًا وألا يلوّح باتفاقية ​فيينا​ الدولية وألا يعيرَ كرامة الحريري وكرامة ناسه وغير ناسه انتباهًا. ربما كان على ميشال عون أن يكون كأيّ رئيس آخر، مسحوقًا بقراره وتوقيعه كي يغدوَ في عيون "صنّاع" رؤساء لبنان رئيسًا كما يشتهونه، يرسمون له الطرق ومفترقاتها. يبدو أن عون ليس كذلك ولا يناسبهم رئيسٌ على شاكلته!