أكبر معضلة في تاريخ العالم التجسّد الإلهيّ، وهذا ما يفرّق المسيحيّة عن غيرها. ولا يجعلها حتّى في منظومة الأديان والقوانين والمعتقدات.

المسيحيّة مشروع الله على الأرض، فبتجسّده في أحشاء ​العذراء​ وباتّحاد الطبيعة الإلهيّة بالطبيعة البشريّة، وظهوره في الجسد في ​عيد الميلاد​ المجيد، تغيّرت المفاهيم وانقلبت المقاييس، ولا يمكن ادراك هذا الأمر إلّا بالمحبّة القصوى.

التجسّد قمّة المحبّة لأنّه اتّحاد الله بالإنسان إتّحادًا كاملًا، ويتبعه الصلب والقيامة. هنا تمامًا بيت القصيد. المحبّة، ولا يمكن لهذه المحبّة التي تبدو بالمفهوم البشريّ المحدود غير منطقيّة، إلّا أن تعاش لكي تُفهم. فالموضوع ليس بحثًا ومقارنات ودراسات و“فلسفات“، بل استدعاء للروح القدس ليسكن فينا وينير عقولنا ويفتح أذهاننا كي لا نصبح أمثال الذين قيل قديمًا: ”لَهُمْ أَعْيُنٌ وَلاَ يُبْصِرُونَ. لَهُمْ آذَانٌ وَلاَ يَسْمَعُونَ“ (إرميا ٢١:٥).

من هنا، هذا الموضوع يُصبح معضلة شائكة لمن يريد أن يحد الله بعقله، ويفرض عليه محدودياته، فإذا أراد الله أن يتجسّد من دون أن يفقد شيئًا من ألوهيّته طبعًا، فنقول له نحن لا لأنّنا لا نستطيع أن نفهم تجسّدك.

لماذا هو معضلة؟

لأن التجسّد لا يمكن إدراكه إلّا بالمحبّة الكاملة، فالله العليّ المنزّه عن كلّ شيء أراد بملء إرادته ألاّ يبقى بعيدًا عن الإنسان معشوقه، فنزل إليه ليرفعه إليه. هكذا تكون المحبّة وهكذا تكون الأبوّة.

”وبالاجماع عظيم هو سر التقوى: الله ظهر في الجسد، تبرر في الروح، تراءى لملائكة، كرز به بين الامم، اومن به في العالم، رفع في المجد“(١ تي ١٦:٣).

لماذا هو معضلة؟

لأن هناك من لم يفهم التجسّد، فرفضه وكفّره واضطهد الذين يؤمنون به، وما زالت الحرب ضد المسيحيّة مستمرّة.

لماذا هو معضلة؟

لأنّ هرطقات وبدعًا تناولته، فوجدت الكنيسة نفسها، بآبائها القدّيسين، مضطّرةً إلى أن تشرح وتدافع وتوضح، فكانت المجامع المسكونيّة السبعة التي شرحت معنى اتّحاد الطبيعتين الإلهيّة والإنسانيّة تؤكّد "اتّحاد الطبيعتين اتّحادًا جوهريًا بلا انقسام ولا انفصال ولا اختلاط ولا تشويش، وأنّه اتّحاد حقيقي في الجوهر والتركيب“.

لماذا هو معضلة؟

لأنّنا نشهد اليوم تفاسير وشروحات من رجال دين مسيحيّين، لا تتطابق والإيمان المستقيم المسلّم من الربّ ​يسوع المسيح​ والرسل والآباء القدّيسين.

فللأسف هم ضائعون، ويختلط عندهم اتّحاد الطبيعتين، ويبدو أنّهم نسوا أنّ الآباء القدّيسين بالصوم والصلاة والتوبة والدموع والسجدات فهموا الكتاب المقدّس بكشفٍ إلهيٍّ، وعاشوه بالروح القدس. فاللاهوتي هو المصلّي.

كما يبدو أنّه غاب عن فكرهم أنّهم أخذوا "دكتوراه" في كتابات كتبها صيادو أسماك وعشّار وطبيب وحائك خيم؛ وأعمقهم صيّاد السمك يوحنّا الإنجيلي الملقّب بالنسر بسبب تحليقه باللاهوت؛ وهذا الإنجيلي هو أهم لاهوتيّي الكنيسة.

فتلاميذ يسوع وبولس الرسول كتبوا بالنعمة الإلهيّة والروح القدس، والقدّيس يوحنا الذهبيّ الفم وغيره من القدّيسين الكبار عاشوا الكتاب المقدّس وفسّروه بالأصوام والصلوات، وليس بالتنظير والإدّعاء.

الهرطقة الكبرى هي أن نقترب من الكتاب المقدّس بروح متكبّرة تعتز بنفسها وليس بالله، وألاّ نفهم الأسفار المقدّسة بالتوّبة والاتّضاع.

أمّا الطامة الكبرى فهي عندما يعتبر بعضنا الكتاب المقدّس مادة مستقلّة بحد ذاتها، فيدرسها ويأخذ فيها شهادات، منفصلًا عن الحياة الروحيّة والليتورجيّة وعن الآباء القدّيسين، الذين أضحوا إنجيلًا حيّاً وشهدوا للربّ القدّوس بعد رقادهم، أكثر منه في حياتهم، وباتت قبور ورفات عدد كبير منهم منارة حياة ونورًا، وهم معلّمون لكل الأجيال لأن الروح الذي كشف لهم ما كشف، هو روح الله وليس اختراعات بشريّة محدودة.

*رئيس قسم الإنتاج في المركز الأرثوذكسي الأنطاكي للإعلام