أزيلوا الإعلانات الداعية للتعديلات التشريعية في جرائم الإغتصاب وانزعوا صور الفتيات المغتصبات عن الطرقات. لا تعجبوا. الإعلانات قد تثير النزعات الإجرامية.

قبل الغرق في أهداف الإعلان، أيّ إعلان، لا بدّ من توافر شرط جوهري لنشره وهو وجوب توافقه بالشكل والمضمون مع القوانين الدولية والمحلية ومراعاته لعلم الإجتماع وطبّ النفس. لذا ارتأينا طرح هذه المسألة الخطيرة، لأن التغيير لا بدّ أن يسلك طريقه من بوابة العقل لا من مفرق الشارع. ليست لوحات إعلانات الطرقات والبلديات اليوم في ​لبنان​ هي السبب وراء الجرائم الفظيعة المرتكبة بحقّ النساء. علم الإجرام شائك أكثر. ولكن، هل تضمنون أنها ليست بصورها وعباراتها محفّزاً بغير قصد للشاذين المجرمين؟. إن الدراسات العلمية النفسية حول أثر الإعلان على سلوك البشر كثيرة و متعدّدة. بعد غوصنا وتخصّصنا في هذا العالم، خَلُصنا الى أن علماء النفس والأخصائيين في علم ادارة الأعمال يُجمعون أن للإعلان نتائج أكثر من مزدوجة ومتضاربة في ذهن الناس. السبب الرئيسي يكمن في كيفية إخراجه.

الإعلان التجاري، على سبيل المثال، إما يحفز المستهلك على شراء السلعة أو يلعب دورا سلبيا في سلوكه الإستهلاكي فيمتنع عن اقتنائها أو حتى الرغبة بها.

أما بالنسبة للإعلان الإجتماعي، وهو جوهر قضيتنا اليوم؛ فآثاره تختلف على الفرد والمجتمع بسبب عوامل عدّة. منها ما هو خاص بشكل الإعلان ومنها ما هو خاص بثقافة المجتمع أو ذهن الأفراد. إنّ إخراج وصور وعبارات الإعلان لهم التأثير الأكبر. فالإعلان الهادف للتوعية والردع والتحفيز على التغيير قد يحقق أهدافاً عدّة، نذكر منها:

أوّلاً: على المدى البعيد، وفيما اذا روعيت بعض الضوابط؛ قد ينتج عن الإعلان الردع والوعي المبتغى في عقل المشاهد، المستمع أو القارئ ومنه إلى الرأي العام الأكبر فتتحول الفكرة الى قضية والقضية الى قانون.

ثانياً: من جهة أخرى، قد يثير الإعلان، لا سيما الذي يتناول وقائع جنسية، غرائز شاذة دفينة في بعض النفوس والأذهان خاصة اذا أظهر صورا أو عبارات ما. قد تكون تلك العناصر طبيعية بالظاهر ولكنها في العقل الباطني للبعض محفزة. فيتجه السلوك عكسياً نحو حالة الإعلان لا صوب مضمونه الداعي للنهي.

ثالثاً: التسبّب بالهلع لدى اليافعين لا سيما المراهقين. فتكثر في أذهانهم الوساوس والقلق من خطر غير موجود أصلاً في محيطهم العائلي أو المدرسي. تظهر نتائج هذه المخاوف في توترات بالعلاقات العائلية، او تراجع بالنتائج المدرسية عدا عن إشاعة حالة من التهيؤات التي قد تودي الى نتائج وخيمة صحية وقضائية.

لا تخلو المحاكم الأجنبية من دعاوى قضائية ضدّ إعلانات اجتماعية سببت أضرارا مادية ومعنوية للمواطنين، ما دفع دولا أوروبية وولايات أميركية إلى سنّ تشريعات خاصة ادارية وجزائية متعلقة بحظر أنواع من الإعلانات في المجلات أو على لوحات الطرقات. نذكر منها مثلاً ​فرنسا​ و​بريطانيا​ وولاية واشنطن.

سألنا بعض المهتمين من نواب ووزراء وحقوقيين وأمنيين وناشطين في الجمعيات السؤال التالي: لماذا كل هذه الإعلانات على الطرقات اللبنانية للترويج على وجوب تشديد النصّ والعقاب في جريمة الإغتصاب وسفاح القربى؟. الجواب أتى بالإجماع: لأنّ قانون العقوبات يحتاج حتماً الى تعديل وتشديد في نصوصه. نوافقهم الرأي. ونحن من الداعين لتحقيق التغيير التشريعي المنشود. يُسَطّر للجمعيات الأهلية كل التقدير على جهودهم وحملاتهم ونشاطاتهم في هذا المجال؛ حيث يقومون بما هو أساسا من واجب الدولة والسلطة التشريعية. ولكن، التشريع والاقتراحات التشريعية ومشاريع القوانين، لا سيما تلك المتعلقة بالحياة والجنس والعائلة لها أساليبها ووسائلها وصروحها في ​مجلس النواب​، واللجان المعنية و​الحكومة​ وتُعقد لها المؤتمرات والندوات، ولها برامج خاصة اعلامية وإعلانات متخصصة ووسائل إعلامية موجهة للكبار.

حذارِ من التعسّف في نشر الإعلانات على الطرقات. نسأل المعنيين:

-كيف تفسّرون لطفل بعمر ١٠ سنوات يسأل أمّه أثناء نزهة في السيارة، عن معنى “اغتصاب” أو معنى “اغتصاب من قريب” عبارات قرأها على لوحات الإعلانات على الطريق؟.

-من قال لكم أن الطرقات يمرّ عليها فقط النواب المشرّعون أو القضاة الذين يصدرون الأحكام؟

-من قال لكم أنّ الأطفال لا تجيد القراءة؟ والخوف؟.

-من قال لكم أن سائق باص مدرسة يقلّ تلامذة مخوّل أن يشرح لاطفال أعمارهم تتراوح بين ٦ و١١ سنة معنى الإعلان المنشور على الطرقات حول “تحرّش”؟. أنتم مع التوعية بعمر مبكر؟ حسناً، ولكن…

-من قال لكم أصلا أنّ الأهل يسمحون أن يتلقى أولادهم حقيقة مسائل دقيقة من هذا النوع عبر “إعلان” أو بواسطة تفسير لسائق “غريب” أو أي كان.

-من قال لكم أن هذا هو التوقيت الملائم والعمر الملائم للطفل أو الحدث ليعي هكذا موضوع؟ أليس لكل طفل خصوصياته النفسية والفكرية والعائلية؟.

-أليست هذه صفعات بوجه الطفولة بغير رضى الأهل؟ (كي لا نقول أنّها اعتداء على نفس طفل بغير قصد).

-من قال لكم أن صورة فتاة مغتصبة لا تقتل نفسيا ألف فتاة تعرّضن في ماضيهن للاغتصاب وتعالجن منذ سنوات وامّحت من ذهنهن صورتهن التي كانت بوضع مشابه؟ فعدتم وأيقظتموها مع كلّ أوجاعها؟.

-ماذا تجيبون طفلة بعمر ١٢سنة تسأل: “ليش كل البنات اللبنانيات عالبيلبورد ضربوهن؟”

لا يبدو أن الإعلانات تلغي الجريمة.

خطفها من الجميزة في بيروت، أهانها، عذبها، اغتصبها، قتلها ورماها على جانب اوتوستراد المتن السريع.

هكذا قتل اللبناني سائق ​شركة Uber​ الدبلوماسية في السفارة البريطانية ​ريبيكا ديكس​ منذ يومين بدم بارد وبشناعة قصوى هزت الوسط اللبناني والدولي.

في اليوم ذاته، فتاة عشرينية مغتصبة ومقتولة وملقاة في ساحل كسروان.

في أيلول المنصرم، صُدمت مزيارة-الشمال. حيث قام ناطور سوري الجنسية بخنق واغتاصب الشابة ريا الشدياق داخل منزلها.

البارحة مساء في مشمش عكار، زوج يقتل حماته ويحاول قتل زوجته التي تصارع الحياة الآن بإجرام مروع.

منذ أشهر ناطور سوري اقتحم منزل ممثلة وحاول اغتصابها.

في جبل لبنان، شاب تحرش جنسيا بطفلة واعتدى عليها.

أصبحت هذه الجرائم المروعة شبه يومية. انتحار زوجات وفتيات في مقتبل العمر بسبب تعنيف أزواجهن أو أصدقائهن. اغتصاب، تحرشات، تهديدات، تعنيف لفظي ومعنوي وجسدي، ضرب وايذاء، خطف، قتل، محاولات قتل. شذوذ يُمارس على أطفال ونساء وأحداث… كلها حاصلة في مجتمعنا وبتزايد.

أقلام النيابات العامة الإستئنافية ملأى بالشكاوى بهذا النوع من الجرائم وكذلك المحاكم.

لذا، إنّ المطلوب في المرحلة الراهنة، وبالتوازي مع التحديث التشريعي؛ تأسيس منظومة لسياسة إعلامية وإعلانية واعية تضع خطّة عمل متكاملة فيما بين الأجهزة الأمنية والجمعيات المتخصصة والوزارات المعنية من داخلية وعدل وإعلام وثقافة وطب، لتحقيق الردع والتوعية والقصاص المنشود وفق الأصول، وبأقل ضرر ممكن على الفرد والمجتمع. ولتكن القاعدة الأساس: اذا كان الإعلان غير مسؤول، الإعلان مسؤولية.