فلنكن على صورة "طفل المغارة" ولنعيش العيد بحقيقته إلى جانب أهلنا وكُل محتاج تنازل النور الإلهي، "الفائق الجوهر"، الإله الذي قبل الدهور، وأخذ هيئة طفل. ولد في مغارة، وفي مزود حقير للبهائم، وإلى جانبه "بسطاء القوم"، ليعلمنا التواضع والمحبة والبساطة.

لقد صار "الكلمة إنساناً" بكل ما للإنسان "ما خلا الخطيئة"... نزل من السماء وفتح لنا الطريق للعبور إلى السماء.

لقد أرسل الله ابنه الوحيد ليفتدي البشرية جمعاء، ولننال "التبني"، وليرفعنا من العبودية لنكون "أبناء لله". ولد الطفل يسوع من أحشاء ​مريم العذراء​ ومن الحب الإلهي للإنسان منذ البدء، حين خلقه على صورته ومثاله. خرج الطفل من احشاء مريم إلهاً متجسدا، وجعل نفسه فقيراً، وبه صار الخلاص للعالم، وبمريم تقدست كل النسوة. ولد يسوع في المغارة مع البهائم، حيث لا مكان للفحش، لا قصور، لا فراش من حرير، لا ازهار تملأ المكان، لا تزاحم لكبار القوم، لا بالونات ملونة، ولا فخفخة.

النجمة دلّت المجوس على مكان وجوده، فأتوا وسجدوا له، وحملوا معهم هدايا من ذهب ولبان وبخور.

احتضنته محبة مريم، وتفاني يوسف النجار، الخادم لمشيئة الآب في المحافظة على حياة الصبي، إلى أن أتت الساعة التي تمجد فيها إبن البشر.

هذا الطفل الإلهي، قد أبطل الموت ومنح العالم القيامة والرحمة العظمى، قد خلّص البشرية من الخطيئة الأصلية. لقد ولدنا منه من جديد، من نوره، من حبه، لتكون لنا الحياة الأبدية معه.

ذكرى ميلاد المسيح تأخذنا جميعاً لتضعنا في زمن القيامة، لاستحضار الوقت الذي صار به خلاص البشرية، ولنرتقي بأرواحنا إلى السماء، علّنا نحوي في قلوبنا الطفل يسوع، فنتواضع، كما فعل إلهنا حين تجسد متواضعاً، خاصة أن العبادة لم تعد اليوم للإله الحقيقي بل للمال والماديات، والقتل والدمار، فالعالم اليوم قد أصبح يميل إلى الإلحاد، إلى التلذذ بنزوات الجسد، إلى المظاهر الباطلة، إلى الطمع والكسب المادي، كذب الحكام وفسادهم لم يعد فيهم قلب يعرف الرحمة وسط أتون من نار الحروب المشتعلة.

إننا إذ نرتقي إلى السماء لعلّ المحبة تنتصر على البغض والقتل والتدمير، ولعل المغارة وزينة الميلاد، تعود مرآة لمغارة المسيح، ويعود البشر عن ظلمهم، رحماء ومتحدين، ومتفانين في الخدمة في شتى الميادين، وتعود العائلات لتجتمع حول مائدة المحبة، كما كان يحدث في الماضي، بعد ان تشتَّت العائلات وفقدت المرأة القناعة برجلها فتخلت عن دورها لسواها، وبعد أن فُقدت الإنسانية من قلوب البشر.

لقد سجد المجوس أمام النور الإلهي الذي كان في مزود البهائم، أما حكامنا فيسجدون كل يوم أمام رنين الذهب.

الرب يسوع كلَّم بسطاء القوم وبطريقة بسيطة، أما حكامنا فيتكلمون بلغة لم نتعودها ولا نفهمها، لأنها لغة الشتائم والتخوين...

في موسم العيد، قد أصاب الجنون المحموم الجميع، البلديات، الأسواق التجارية، في مسابقات لنصب أكبر شجرة ميلادية تُكلِّف آلاف الدولارات، أما البيوت فمنشغلة بالزينة التي تدل على ثراء أهل البيت، وبتحضير الموائد الفخمة، وبشراء الثياب الباهظة الثمن، وفي شتى أمور الدنيا، وقد نسوا قول الرب: "مرتا مرتا إنك منشغلة بأمور كثيرة، وإنما الحاجة إلى واحد"، الحاجة إلى الرحمة أن تملأ القلوب، وإلى المحبة والتسامح والتواضع والتلاقي. نحن لسنا ضد العادات الإنسانية، ولا ننكر على الناس حقهم في الزينة التي تعبر عن الفرح بقدوم الطفل يسوع ولا حب التمتع بالأطايب، ولكن ليس إلى حد المبالغة في المظاهر الخارجية، في حين الداخل فارغ من الإيمان الحقيقي ومن روح الرحمة، وهناك ملايين البشر يعيشون تحت خط الفقر، وأطفال قد حُرِموا من بهجة العيد، ومرضى حُرموا من الدواء، وعجزة متروكين ومنسيين.

المسيح قد جاء ليحررنا من قيود هذا العالم، ليرفعنا معه إلى السماء، اما نحن فقد تناسينا إيماننا المسيحي الحقيقي. تناسينا المحبة التي هي أعظم ثمار الله. فالفرح الحقيقي لا يتم الا بالمشاركة والترفع عن كل ما يسيء لعلاقتنا بالآخر. لا يمكن أن نرتقي بالتسلط والتكبر على الآخرين، وبالانتفاخ، بل باللُّطف في العلاقة، وبالتواضع الذي تفرضه المحبة، وبالعمل الفعلي الذي هو أسمى من الشكل التقوي. فلا تتسلط يا أخي على الآخرين لأنهم دونك مقاماً مهما كان موقعك، اطلب لغيرك وليس لنفسك، فالله وحده يعرف مكنونات نفسك وهو يجزيك خيراً.

المسيح قد أتى من اجل القلوب الطيبة والمنازل المتواضعة، من اجل الأرامل، من اجل الاولاد المتروكين، من أجل الأيتام، من اجل الفقراء والمساكين والمحتاجين المضطهدين، قد أتى من أجل المرضى، من أجل الضعفاء والمعاقين، قد أتى من أجل الخطاة لكي يرحمهم الله بجزيل رحمته. فأين نحن من رسالة المسيح التي هي أعظم رسالة في الوجود؟ وأين نحن من تعاليمه؟ المسيحيون اليوم و"في العالم شرقاً وغرباً، لهم صورة التقوى ولكنهم منكرون قوتها". أما الحكام في هذا الشرق فيضعونا في نار جحيم الحروب. إن موجة الإرهاب اليوم التي تغزو العالم نرجو ان تنحسر، والإلحاد والتطرف الديني، ورغبة حكامنا في تكديس الثروات في حين الجوع والفقر والبطالة تغزو عالمنا، وشبح تهويد القدس الحبيبة مهد المسيحية، يُخيِّم على أجواء العيد. في هذه الأجواء القاتمة يأتي العيد، عيد مولد ربنا والهنا ومخلصنا ​يسوع المسيح​ في مزود البهائم. إذا اللقاء مع الرب يسوع المسيح، الذي وجد نفسه مع المساكين بالروح، يتم من خلال إغاثة المحتاج. يقول يسوع: "كل ما فعلتموه باخوتي هؤلاء الصغار فبي قد فعلتموه". المسيح قد تجسد وجعلنا أبناء لله، وعلَّمنا ان نصلي له ونقول: "أبانا الذي في السموات..." المسيح هو نورنا ومخلصنا، لقد حررها من الخطيئة. ولد يسوع، ما هذا السر العظيم. ظهور المسيح بالجسد؟!.

شعاع الشمس يمنح الدفء لاجسادنا، أما شعاع نور المسيح فيضيء قلوبنا ويدفىء أرواحنا بمحبته اللامتناهية، يعطينا سلام القلوب الطيبة، ويُنير أفكارنا، ويمنحنا الخلاص الآتي إلينا من السماء، وتلفح أرواحنا أشعة أنواره التي لن تغيب، لنتذكر دوما أننا في "حضرة الله"، وأننا نعيش في عبور مستمر من الحلم إلى الحقيقة، نعيش فترة تحدٍّ يومي في هذا العصر المجنون، فلنستبدل جنون العصر بفرح الملكوت، وذلك من خلال بساطة العيش، وأعمال الرحمة، والعطاء المجاني، والخدمة، وزيارة البيوت الفقيرة حيث الأطفال حُرِموا من بهجة العيد.

الأهم ما يجب ان يكون في اجواء العيد هو الإلتفات إلى الأخوة الفقراء والمساكين والأولاد المتروكين والأيتام وغيرهم ممكن قسى عليه الدهر، ووضع إمكانياتنا المتواضعة في خدمتهم، إذ أن الإهتمام بهم في هذه الفترة لا تعني البتة حصر الإهتمام بهم فقط في ايام الأعياد، فلنكن رحماء تجاه المحتاجين كما "أبانا السماوي رحوم" وليرافق فعل المحبة حياتنا في كل الأوقات، ولا يقتصر على القليل من الرحمة في فترات الأعياد، والمهم مساعدتهم في مداواة أسباب فقرهم، ومحاولة إيجاد مورد رزق ثابت لهم يعتاشون منه، وذلك لرفع ضغط الفقر والحرمان والبطالة عن كاهلهم.

نحن بحاجة إلى تغذية محبة المسيح داخلنا، وان نكون كالسامري الصالح، وأن نتحد، لأنه بالاتحاد قوة. فحبذا لو نتوب إلى الرب، ونعود إلى وحدة القلوب التي سوف تقرب المسافات بيننا وتجمعنا. الايمان ليس فقط الذهاب إلى الكنيسة، وسماع التراتيل وكلام الإنجيل، هو قبل كل شيء اللقاء مع الآخر من خلال اللقاء مع الرب. عندما نتواضع نرمي البغض والحقد من قلوبنا، وعندما نحيا بساطة العيش مع الطبيعة نفرح، فالمسيح قد ولد في الطبيعة، وتبقى "المحبة أولا وأخيرا"، بدون المحبة لا معنى لوجودنا. فلنحب بعضنا بعضا لنعكس محبة المسيح، الذي احبَّنا وافتدانا بدمه الطاهر. ولنسلك درب الرحمة والوداعة والتواضع التي سلكها، فنحن نعبر في هذه الحياة، فلنعبر مع مجد القيامة إلى الملكوت السماوي.