لم يكن سهلاً على ​الاتحاد السوفياتي​ ان ينتقل من حالة الى اخرى، فحالة "البريسترويكا" (اعادة البناء) التي اعقبت سياسة "الغلاسنوس" (الانفتاح والشفافية) التي اعتمدها آخر زعيم للاتحاد السوفياتي ​ميخائيل غورباتشوف​ كانت كارثية على الاتحاد السوفياتي وبعده على ​روسيا​، وعانى الروس ومواطنو الجمهوريات السوفياتية السابقة الامرّين قبل ان يعرفوا نقلة نوعية على يد الرئيس الحالي ​فلاديمير بوتين​، الذي اعاد الى روسيا هيبتها على الرغم من انقسام الآراء حول السياسة التي يعتمدها بين مؤيد ومعارض.

اليوم، نرى المشهد نفسه في ​السعودية​، فإعلان ولي العهد الامير محمد بن سلمان اعتماد سياسة الشفافية والاصلاح ومكافحة الفساد والتقرب من الجيل الشاب يمكن اطلاق عليها مصطلح "الغلاسنوس"، ومن المبدئي ان تتبعها سياسة "البريسترويكا" في وقت لاحق. ولكن هناك فرق كبير في التطبيق العملي في الشق الاول، فبالمقارنة المنطقية الواضحة يمكن ملاحظة ان غورباتشوف كان في سدة الحكم حين اطلق سياسته، فيما الامير محمد لا يزال ولياً للعهد (ولو انه ممسك فعلياً بزمام الحكم)، كما ان الزعيم السوفياتي ولو انه كان في حالة اقتصادية سيئة فلم يستهدف اصحاب الاموال فيما عمد الامير الشاب الى وضع اصحاب رؤوس الاموال في السعودية في الاقامة الجبرية للحصول على مبلغ 100 مليار دولار في خطوة لم تقنع الرأي العام الخارجي بأنها تصب في خانة مكافحة الفساد. واجه غورباتشوف في حينه عوامل وتطورات ساهمت في احباط مشروعه الانفتاحي والشفاف ومنها على سبيل المثال لا الحصر (انفجار تشرنوبيل النووي، طموح الجمهوريات السوفياتية الى الاستقلال...)، فيما عمد ولي العهد السعودي محمد بن سلمان الى قطع الطريق امام اي "مفاجآت" داخلية اقتصادية او سياسية واعطى الشباب فسحة من التنفس عبر اجراءات باتت معروفة ولن نكررها، انما نكتفي بالقول انها بعيدة كل البعد عن الاصلاحات التي تحتاجها المملكة والتي نادى بها ولي العهد. اما في السياسة الخارجية، فالفرق واضح جداً، فقد عمد غورباتشوف الى المبادرة وفتح الخطوط مع كل من كان الاتحاد السوفياتي على عداء معه، وانتهج سياسة بعيدة عن الحروب والامور العسكرية، فأقام الاتفاقات مع الولايات المتحدة واهمها تخفيض الاسلحة النووية وسحب الجنود السوفيات من ​افغانستان​ وتخفيض عددهم في ​اوروبا​...

في المقابل، لم يصدر عن الامير محمد بعد اي خطوة من شأنها التدليل على سياسة انفتاح خارجية، فهو ركّز ويركّز على علاقته ب​الولايات المتحدة الاميركية​، ولا يزال يخوض صراعاً عسكرياً في ​اليمن​ (وهي دولة استراتيجية بالنسبة اليه وهو امر مفهوم تماماً)، ويصعّد سياسياً مع دول بعيدة وقريبة على حد سواء مع دفع بالكثيرين الى الحذر من التعامل معه.

قد يكون ولي العهد السعودي مهتماً بعدم السير على نهج غورباتشوف لاعتباره انه فشل في سياسته، ولكن الزعيم السوفياتي فشل داخلياً بسبب الوضع الاقتصادي الرديء فقط، ولم تنفع سياسة التقرب من الشباب واعطائهم مجال الحرية للتنفس كما ان استقلال الجمهوريات السوفياتية لعب دوراً سلبياً، فيما نجح خارجياً وبنى علاقات ساهمت في انقاذ ما يمكن انقاذه من هيبة الاتحاد السوفياتي. وقد يكون الامير محمد يرغب في السير على نهج بوتين الذي تسلم دولة مهزوزة، وعمد عبر سياسة غير انفتاحية داخلية وخارجية الى الوصول الى ما هو عليه اليوم كلاعب رئيسي على الساحة، فهو لم يتهاون مع جورجيا والشيشان ولم ينتهج سياسة تخفيفية في الداخل، لكنه في المقابل عرف كيف يتعاطى مع الدول الاخرى القريبة منها والبعيدة.

لا يبدو حتى الآن ان سياستي "البريسترويكا" و"الغلاسنوس" قد تمت مقاربتهما بنجاح من قبل السلطة السعودية الجديدة، وقد يكون من المفيد اعادة النظر بهما والتوقف عند اسباب الفشل الي عانى منه غورباتشوف من جهة ومعالجتها، واسباب النجاح الذي حصده بوتين من جهة اخرى وتقييمها، فتكون الاستفادة من التجربتين الخطوة الصحيحة نحو رؤية مستقبلية واضحة وقيّمة للاعوام المقبلة.