تستفزّني بعض العادات والمعايدات المرتبطة بعيد الدّنح المقدّس، والتي تنتشر بسرعة النار في الهشيم بواسطة وسائل التواصل الإجتماعي، وما يواكبها من معتقدات وتقاليد ورواياتٍ هي أقرب إلى السحر والخرافة منه إلى الإيمان، ولا حِيلة لي سوى تَحَمِّلِها على مَضض، فأسمَعُ وأُشاهِد في العيد ما لا أرغبُ في رؤيته وسَماعِه، وما لا يتوافقُ البتّة مع مستودع الإيمان والعقيدة المُستقيمة والحقيقة اللاهوتية المتعلِّقَة بعيد الأنوار.

العيدُ هو عيدُ الدِّنح، والكلمة في أصلِها السرياني"دِنْحُا"، تعني الإشراقُ والظهور. فالدِّنح هو عيدُ ظهورِ سرِّ ​المسيح​ يسوع بصفته إبنُ الله الوحيد وحبيبُه(متى3:17)، وقد أشرَقَ لنا من حشا أبيه نعمةً وخلاصاً(2طيم1:9)، أي محبّةُ ورحمةً للخطأة والعُصاة ورِفقاً بِمَن هُم أدنى حالَةً، وجوداً وفَضلاً ولُطفاً(طي2: 4) والدِّنحُ في الوقت عَينِه، هو عيدُ ظهور سرّ الله الثالوث الأقدس، الآب والإبن والروح القدس، ويروي لوقا الإنجيلي الخبرَ بقوله :"واعْتَمَدَ يَسُوعُ أَيْضًا، وكانَ يُصَلِّي، انفَتَحَتِ السَّمَاء، ونَزَلَ عَلَيْهِ الرُّوحُ القُدُسُ في صُورَةٍ جَسَديَّةٍ مِثْلِ حَمَامَة، وجَاءَ صَوْتٌ مِنَ السَّمَاءِ يَقُول: "أَنْتَ هُوَ ابْنِي الـحَبِيب، بِكَ رَضِيت"(لو3: 21-22).

وإن كان عيد الدّنح من أعظم الأعياد المسيحيّة، كونُه عيدُ "ظهور نِعمَةِ الله المُخلّصَة"(طي2 :11)، فإنَّ تشوهاتٍ أَخذت تنال منه وَلَو عن غير قصد، ما يدعو إلى إعادة ترميم معناه الأصيل في عقول المؤمنين وحياتهم، لاسيّما عند هؤلاء الذين يختصرونه في بعضٍ من الطقوس الاجتماعية والرويات التي تأخُذه بعيداً جدّاً عن الحقيقة الإنجيلية، ويمزجون بينه وبين ليلةِ القدر التي هي في معتقداتٍ أُخرى "خيرٌ من ألفِ شهر"(القدر1)، لأنَّ فيها تُفتَحُ السماء أمام تضرّعات وابتهالات المؤمنين وحاجاتهم، ويستجيب الله!

ولكنّ ليلة الدِّنحِ ليست أبداً ليلَة القدر كما قد يعتقد البعض، حيث يشعر المؤمنون بِلَذّة العبادة دون غيرها من الليالي، وبطمأنينة القلب وبِكَمٍّ من الخوارق؛ فالله ليس غائباً البتّة لكي يكون حاضراً في هذا التوقيت بالذّات، وليس بعيداً يسبَحُ في الفضاء الخارجيّ الخاصّ به والحائل دون لقائه بالإنسان، لكي يكون قريباً يسكن أرض البشر، وليس أصمّاً طوال السنة وسامعاً مُستجيباً بشكلٍ خاصّ في ليلةٍ منها! بل هو السامع المُستجيب أبداً، والحاضر القريبُ أبداً، لأنه "عمّانوئيل، أي اللهُ معنا"(متى1 :23) على ما نقلَه الملاك ليوسف في أمرِ المولود من ​مريم العذراء​.

الله مَعنا في شخص المسيح يسوع، ولهذا، لا لزومَ لحشواتٍ لا تَمتُّ إلى الحقيقتين الإيمانيّة واللاهوتية بصلة. على المسيحيين أن يؤمنوا بهذه الحقيقة، وبأن السماوات لا تنفتح في مناسباتٍ معيّنة وتُقفَلُ في أُخرى، بل هي مفتوحَةٌ على الدوام وقد شقّها لنا الإبن بتجسُّده وبذبيحة الفداء، "فمنَ الآنَ تَرَوْنَ السَّمَاءَ مَفْتُوحَةً، وَمَلاَئِكَةَ اللهِ يَصْعَدُونَ وَيَنْزِلُونَ عَلَى ابْنِ الإِنْسَانِ"(يو1: 51)، وليس علينا سِوى أن نسأل فنُعطى، ونَطلُب فنُستجاب، ونَقرَع فيُفتَحُ لنا(متى7: 7)، في أيِّ وقتٍ وفي أيّة ساعة وفي أيِّ ظَرفٍ ومكان.

هذا هو المنظار الذي يجب أن ينظُر المسيحيّون من خلاله إلى عيد الدِّنح، لئلاّ تَقْوَى الطقوس والعادات المخلوطةِ بالخرفات والمعتقدات الغريبة عن منطق العقيدة المسيحيّة، فيقَعُ اللاهوتُ في مقلاة الزلابية وقطر العوّامات والعجينة المُعلّقة والشَّجَر الساجد، وبعضُ الأشعار التي تُحَرِّف المعنى الأصيل لحَدَث اعتماد الربّ يسوع.