في أقل من شهر، حطّ الموفد الأميركي توم براك رحاله في بيروت للمرة الثالثة، في زيارة تحمل هذه المرة طابع الإلحاح السياسي، وتُعبّر عمّا يشبه السباق الأميركي مع الوقت لحسم ملفّ سلاح "​حزب الله​" تحت عنوان "إعادة ​الاستقرار الإقليمي​"، وهو ما عبّر عنه الرجل صراحةً بتصريحاته إلى الصحافيين، حين قال إنّ ​لبنان​ يشكّل "مفتاحًا لهذه التجربة"، في ظلّ الأوضاع المتوتّرة في المنطقة، وآخرها أحداث السويداء في سوريا.

فبعيدًا عن لغة الدبلوماسية الناعمة، تحمل الزيارة في طياتها رسالة واضحة: إدارة الرئيس دونالد ترامب تعتبر هذا الملف أولوية قصوى، وهو بمثابة مدخل إلزامي لأي عملية سياسية واقتصادية مقبلة في لبنان، وهو ما يفسّر في مكانٍ ما التسريبات التي تتحدّث عن إصرار أميركي على جدول زمني واضح لإنجاز عملية حصر السلاح بيد الدولة وأجهزتها الرسمية، بعيدًا عن أيّ وعود قد تبقى أسيرة المماطلة نتيجة الظروف.

لكنّ ما يميّز الزيارة، من حيث التوقيت هذه المرّة، أنها تأتي بعد يومين فقط من خطاب للأمين العام لـ"حزب الله" الشيخ نعيم قاسم، بدا فيه كمن يستبق الزيارة لرفع سقفه التفاوضي، فُهِم منه أنّ الحزب ليس في وارد تقديم تنازلات مجانية، وهو قال صراحةً إنّه لن يفرّط بقوته، ويرفض تسليم السلاح إلى إسرائيل، وعلى أنّ المطلوب أولاً اتفاق وقف إطلاق النار قبل أي نقاش آخر، وبالتالي وقف الخروقات الإسرائيلية اليومية للسيادة اللبنانية.

وإذا كان "حزب الله" أراد من خلال هذا الكلام التذكير بثوابته، ورفضه التعاطي مع أي صيغة تعتبر سلاحه عقبة لا بد من تجاوزها في سياق الإعمار أو الاستحقاقات المقبلة، فإنّه يفتح الباب أمام علامات استفهام بالجملة حول مآلات هذا الكلام، فما الذي يمكن أن تُفضي إليه زيارة براك الثالثة، وكيف تُقرأ على المستوى السياسي والاستراتيجي؟ وماذا يعني موقف "حزب الله" عمومًا، وهل يمكن أن تصل الأمور إلى حدّ "الصدام"، الداخلي ربما قبل الخارجي؟.

في المقام الأول، تعكس هذه الزيارة إذًا إصرار إدارة الرئيس دونالد ترامب على "إنجاز المهمّة"، إن صحّ التعبير، بعيدًا عن أيّ تمييع أو مماطلة، وهي لا تكتفي بمجرد البحث في خفض التوتر، بل تسعى بشكل فعلي إلى تحقيق هدف أبعد: وضع جدول زمني واضح وصريح لسحب سلاح "حزب الله"، على أن تتكفّل الدولة اللبنانية لاحقًا ببسط سلطتها الكاملة على أراضيها.

من هذا المنطلق، أشار براك بعد لقائه رئيس الحكومة نواف سلام إلى أنّ بلاده تعتبر "حزب الله منظمة إرهابية"، وأنّ اتفاق وقف إطلاق النار الأخير "لم ينجح"، وهو ما تسعى واشنطن لمعالجته، مع تأكيده أنّ مسألة "نزع السلاح" شأن داخلي لبناني، لكنه يظلّ بندًا أساسيًا على جدول المحادثات مع الحكومة.

ما يلفت في خطاب براك هو الإصرار على النفي المتكرّر لوجود أي ضغوط أو تهديدات، مقابل نبرة توحي بأنّ الولايات المتحدة ماضية في طرحها، بغضّ النظر عن تجاوب الطرف الآخر. فحين سُئل عن "الضمانات" المطلوبة لإنجاز هذا المسار، أجاب بشكل صريح: "لسنا هنا لفرض أي أمر على أحد، ولا نستطيع أن نرغم إسرائيل على القيام بأي شيء".

وتحمل هذه الإجابة في طيّاتها ما هو أبعد من الحياد، إذ تعبّر ضمنًا عن غياب أي التزام أميركي تجاه مخاوف "حزب الله" من نزع السلاح في ظلّ الاعتداءات الإسرائيلية المتكرّرة، سواء في لبنان أو في ساحات أخرى، وهو ما عكسه الخطاب الأخير للأمين العام للحزب، والذي كرّر فيه الحديث عن أولويات يجب أن تسبق البحث ب​الاستراتيجية الدفاعية​.

ورغم كل ما يُطرح حول الضمانات، فإنّ العامل الإسرائيلي يظلّ حاضرًا بقوة في خلفية المشهد. فواشنطن، وإن ادعت الحياد، لا تخفي دعمها المطلق لتل أبيب، ولا تعطي انطباعًا بأنها قادرة على كبح جماحها، لا في سوريا، ولا في الجنوب اللبناني، حيث يواصل الطيران الإسرائيلي انتهاكاته، ويُلوّح أكثر من مرة بخيارات عسكرية "وقائية".

هذا الواقع يطرح معضلة حقيقية أمام الطرح الأميركي: كيف يمكن لطرف لبناني، في ظلّ عدم وجود ضمانات حقيقية، أن يسير في عملية "نزع سلاح" بينما يُواجَه بعقيدة إسرائيلية تؤمن بالحسم والقوة، وتتحرّك دون التزام بأي اتفاق مكتوب أو تفاهم شفهي، بزعم وجود تهديدات لا أحد يستطيع أن يثبت صحّتها.

رغم ذلك، فإنّ بعض دوائر القرار الرسمي في بيروت تبدو أكثر تجاوبًا مع الطرح الأميركي. فقد أظهرت محاضر الاجتماعات مع براك رغبة واضحة في "​إعادة الإعمار​" و"استعادة الاستقرار"، انطلاقًا من "بسط سيادة الدولة على كامل الحدود"، وبتعاون مع "أشقاء لبنان وأصدقائه". وهي لغة تعبّر، وإن بحدود، عن تمايز متزايد بين الدولة والحزب في مقاربة موضوع السلاح، تمايز لم يعد خافيًا في تصريحات بعض المسؤولين، ولا سيما أنّ الأميركيين يحرصون على تكريس هذا الفصل في تعاطيهم مع الملف.

وبينما يتمسّك "حزب الله" بوضع السلاح ضمن الاستراتيجية الدفاعية فقط، تروّج بعض الدوائر الرسمية لصيغة حوار أوسع، تربط بين الملف الأمني ومشاريع الإعمار والتمويل الدولي، وهو ما تعتبره أوساط الحزب "ابتزازًا سياسيًا" بغطاء دولي، علمًا أنّ ربط إعادة الإعمار بنزع السلاح أصبح واضحًا، بدليل أنّ الحكومة لم تبحث به بشكل جدّي حتى الآن.

بالمحصلة، قد لا تكون زيارة براك الثالثة مجرّد محطة عابرة، بل مؤشرًا إلى تحوّل في مقاربة واشنطن للملف اللبناني، حيث لم يعد بالإمكان فصل الحديث عن "الاستقرار الاقتصادي" عن "الاستقرار الأمني". وتدرك الإدارة الأميركية أنّ فكفكة معضلة سلاح "حزب الله" لن يتم دفعة واحدة، لكنّها تُراكم الضغط على مراحل، في ظلّ تراجع مروحة الحلفاء الإقليميين للحزب، وتزايد منسوب القلق الدولي من اشتعال جبهة جديدة في أي لحظة.

ما إذا كانت الزيارة ستُفضي إلى نتائج عملية، أو ستُضاف إلى أرشيف الوساطات الفاشلة، فذلك ما ستكشفه الأسابيع المقبلة، خصوصًا أنّ الردّ اللبناني الرسمي النهائي لم يُعلن بعد، كما أنّ "حزب الله" يبدو مصرًا على التمسّك بكل أوراقه حتى النهاية، فأيّ نهاية يمكن أن تُرسَم لهذا الملف الشائك، والحسّاس إلى حدّ بعيد؟!.