إلى كلّ القلقين من التطورات الأخيرة في المنطقة، والعالم أقول أننا لابدّ وأنّ نقرأ الأحداث من منظور واقعي بعيد عن الأوهام التي تروّجها وسائل إعلام دول الهيمنة الغربية وعملائهم خاصة الناطقة بالعربية، وهذا المنظور ينبئ بأنّ الأسس التي بنيت عليها القوى العالمية بعد الحرب العالمية الثانية بدأت بالإنهيار، وهي على وشك الانهيار تماماً خاصة بعد هزيمتهم في الحرب الإرهابية التي يشنونها على الشعوب العربية في سورية، و​العراق​، و​اليمن​، و​ليبيا​، ومصر، و​فلسطين​. فمنذ الحرب العالمية الثانية وبعد أن تقاسم الغرب مفاتيح التحكم في العالم وبعد أن قدّم الغرب نفسه للجميع على أنه المثال الأنموذجي في الحكم، والديمقراطية، وحقوق الإنسان، والمساواة بين البشر،بحيث وصل هذا الموقف حداً أنّ الغرب قد سعى إلى عولمة وإعادة ترتيب العالم، ليكون على شاكلته ولتنتهي بعد ذلك كلّ أزمات الحكم والدول، والشعوب في قبضته يقرر لها ما يناسب مصالحه، تمّ تكريس هذا المفهوم بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وانتهاء الحرب الباردة، وتمّ حل حلف وارسو مع بقاء الناتو قوة عدوانية ضاربة وحيدة، وبقاء الولايات المتحدة القوة الامبريالية العظمى الوحيدة في العالم تجرّ في أذيالها الدول الاستعمارية القديمة الأوربية التي بقيت تابعة لها في كلّ القرارات الدولية حتى وقت قريب. ولكنّ الانتخابات الأميركية الأخيرة، والأحداث المتسارعة التي تلتها بدأت تكشف عمق عيوب هذا النظام الأميركي، والغربي، وهشاشته من الداخل. وفي الحقيقة فإن وصول ترامب وهيلاري كلينتون كمرشحين عن الحزبين الجمهوري، والديمقراطي في الولايات المتحدة هو بحدّ ذاته تعبير عن أزمة النظام في الولايات المتحدة لأن معظم الذين صوتوا لترامب قد فعلوا ذلك لسبب جوهري أنهم لا يريدون وصول داعية الحرب، والعدوان هيلاري كلينتون، وكأني بالشعب الأميركي يقول: "هما أمران أحلاهما مرّ"، ولذلك كانت نسبة الأميركيين الذين مارسوا حق الإقتراع نسبة منخفضة بشكل غير مسبوق، وتشير الدراسات أنها لم تتجاوز الـ 15% من الشعب الأمريكي وهذا أمر يدل على فشل النظام السياسي الأمريكي، وعدم تمثيله للشعب الأمريكي. ولذلك وبدلاً من الاستغراب المستمر مما يقوم به ترامب قد يكون من الأجدى أن نتذكّر أن هذا الرئيس هو نتاج ذلك النظام الذي أرادوا أن يعممّوه على العالم برمته. وأصبح أي حكم لا يشبه الحكم الليبرالي الغربي، إما متهماً بالاستبداد، وإما عليه أن يكون خاضعاً لذلك الأنموذج الغربي الذي يزعمون أنه لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه. لابل أخذت العولمة تفرض حتى المشرب والمأكل ، وأساليب العمل، والتصرّف كي يتم هذا تحت يافطة كاذبة تزعم أنها تنشر الديمقراطية، وحقوق الإنسان مع أنّ مراجعة سريعة لتاريخ ما قامت به الولايات المتحدة تكشف عن جرائم بشعة ارتُكبت بحقّ الشعوب، وذهب ضحيتها ملايين البشر وتسببت باندثار حضارات، وثقافات كاملة عن وجه البسيطة. فمن هيروشيما وناغازاكي إلى حروب فيتنام، وكوريا وكمبوديا، وأمريكا اللاتينية، وأفغانستان، ويوغسلافيا، والعراق، وليبيا، وسورية، واليمن، هذا إذا لم نذكر دور الولايات المتحدة في إبادة الحضارات الأصلية على ارضها،ودروها الجوهري في مأساة شعب فلسطين، وتشريده، وإغتصاب أرضه، وحقوقه. ولذلك فإنّ ما نشهده اليوم من انكشاف لحقيقة الدور العدواني الامريكي في العالم، وبداية انهيار ركائزه يجب أنّ يشكّل مصدر سعادة لنا، وللبشرية جمعاء لأنّ هذا الدور العدواني الدموي الذي أتى بالكوارث على البشرية ينكشف اليوم على حقيقته أمام أعين الجميع بحيث يصبح العمل الدولي المنطقي ممكناً، ولو بعد حين. وفي الآونة الأخيرة وبعد الاتفاق النووي بين الجمهورية الإسلامية ال​إيران​ية، والخمسة زائداً واحد، وبعد اعتراض ترامب على هذا الاتفاق أخذت بوادر الفرقة تظهر لأول مرّة بين الدول الأوربية من جهة والولايات المتحدة من جهة أخرى. فقد اتهمت الولايات المتحدة إيران بأن الصاروخ البالستي الذي أطلق من اليمن على ​السعودية​ هو صاروخ إيراني، ولكنّ الأمم المتحدة سارعت إلى نفي ذلك. وحين أتخذ ترامب قراره باعتبار القدس عاصمة لإسرائيل وقفت دول ​مجلس الأمن​ برمتها بما فيها بريطانيا، و​فرنسا​ ضد هذا القرار، وبدت الولايات المتحدة معزولة على الساحة الدولية. وتأكد هذا ثانيةً من خلال التصويت على القرار نفسه في الجمعية العامة للأمم المتحدة. ومؤخراً وبعد المظاهرات في إيران أرادت الولايات المتحدة أن تنقل شأناً داخلياً إيرانياً إلى مجلس الأمن، الأمر الذي قوبل بالصمت أو الاستهجان حتى من قبل الدول الحليفة للولايات المتحدة تاريخياً لأنه يتناقض وميثاق الأمم المتحدة، ويقوّض الأسس التي قام عليها مجلس الأمن. ما يمكن قوله هنا هو أن أزمة الحكم الداخلية الأمريكية قد انتقلت إلى مستوى دولي آخر، وأنّ انحدار الولايات المتحدة كقوة عدوانية عظمى، قد أصبح أمراً واقعاً لا جدال فيه. أي أننا نشهد انهيار النظم السياسية التي تمّ تأسيسها من قبل "المنتصرين" بعد الحرب العالمية الثانية، بينما تعمل الصين، و​روسيا​، ودول أخرى لإرساء أسس تحتفظ من خلالها البلدان بهويتها، وثقافتها، وتتعاون على العمل بشكل متكافئ، وبنديّة واحترام بين الدول على أساس القوانين الدولية، إنّ ما نشهده اليوم هو حالة صحيّة قد لا تتيح للولايات المتحدة مرة أخرى اتهام بلد بحيازة أسلحة الدمار الشامل، وشنّ حرب عليه دون أدنى دليل، كما فعلت بالشعب العراقي، وقد لا تتيح لها في المستقبل إتخاذ إجراءات قسرية أحادية الجانب كما فعلت بحق ​الشعب السوري​، وقد نكون اليوم في مسار مراجعة كلّ الوبال، والخراب الذي سببته الولايات المتحدة وقوتها العسكرية على العالم ونخطّ تاريخاً جديداً للإنسانية يصبح فيه الاختلاف بين الحضارات، والثقافات نعمة، وتصبح العولمة، والعنف، والإرهاب، والليبرالية المرافقة لهما شيئاً من الماضي لا يرتضيه أحد لبلده أو لنفسه. ما يحدث اليوم يدعو للتفاؤل والعمل الجاد، كما تعمل الصين، وروسيا، والهند، وجنوب أفريقيا، ودول أخرى، علينا جميعاً أن نعمل، ونشارك في إعادة صياغة هذا العالم الجديد بعد أن أصبحت الهيمنة الغربية في حالة انحدار أكيد، وربما سقوط قريب.