بلغ الشدّ بحبال الحكم في لبنان حدوداً خطيرة بين الرئاستين الأولى في بعبدا والثانية في ​عين التينة​. تختلف القراءات لكنها تجمع على أنّ الكيمياء تكاد تكون مفقودة أساساً بين رئيس الجمهورية ​ميشال عون​ ورئيس مجلس النوّاب نبيه برّي. قد يفسّر البعض هذا الإنشداد بأنّه من لوازم التحضير الطبيعية للإنتخابات البرلمانية في أيّار/مايو المقبل لمجلسٍ مدّد لولايته مرّتين، ممّا يشدّ العصبيّتين المسيحية والشيعية والوطنية التي ستراكم أصوات الناخبين في صناديق الإقتراع لترسم صورة لبنان الجديد.

أنظر إلى المسألة مشدّدا على خطورتها لأنّها تهدّد بتأجيل ​الإنتخابات البرلمانية​ أوحتّى بفكّ اللحام بين شرائح المتحالفين الكثر الذين تحرّروا من 8 و​14 آذار​ الضيّقة والمنهارة مؤخّراً والتي لم ترسو بعد إلاّ على مرحلة إنتقالية قد تحمل الكثير من المخاطر. لقد نصّ الدستور على فصل السلطات وتوازنها وتعاونها، ولم يتمكن أحد بعد ربع قرن من وضع الحدود بين الأفعال الثلاثة: فصل، تعاون ، توازن.

الطائف حصيلة تفاهم المحاور المارونية والسنية والشيعية أي مثلث متساوي الأضلاع تشوّه عند التطبيق فصار مربعاً أو مسدّساً أخضعت له الطوائف الأخرى ووزع النواب والوزراء جوائز ترضية. لم يعد لشكل الحكم ملامح واضحة، وكأنّ النصوص الدستورية قائمة ومكتوبة مع وقف التنفيذ. وإذا كان لكل اتفاق في الدنيا روح ونص، فالنص حقل إجتهادات لم يتوضح لا في ​اتفاق الطائف​ ولا بعده في الممارسة، أما الروح فغائبة وطنياً، وينظر إليه المسيحيون بغضب وكأنّه دستور إيمانٍ تكون معه أو ضده.

وهنا إستنتاجات من المقال والمستور:

1- ثمة اجماع عند اللبنانيين من مختلف الطوائف من أن الدولة لم تقم بعد ويجب أن تقوم، ولأن المستقبل غامض ومثقل بالديون ولبنان انتظر ما يكفي من هذه المآزم سياسيا واقتصادياً، فما نُفذ من الدستور قد نفّذ وما لم ينفذ سقط أسير تعديل النص وإستحال البحث عن نص جديد كونه يوقظ فكرة الحروب الأهلية.

سترتفع الأصوات وستقوى مطالبة بالمواطنة والتغيير وبتعديلات جذرية في سحنات النواب والوزراء وكذلك في الدستور وتوزيع الصلاحيات، وهذا حقّ لأنّ الدساتير ليست نصوصاً مقدّسة ولأنّ الآليات الواردة في ​الدستور اللبناني​ نفسه تحوّلت ألى وجهات نظر ومواقف سياسية متباعدة تدعو من ناحية الى احتساب أعداد اللبنانيين تقابلها أصوات وهواجس تقول بالتوافقية لا بالعددية يحكم لبنان. أصبح الدستور اتفاقاً

يعلن موته وعجزه وطنياً منذ ولادته القيصرية عن طمأنة اللبنانيين بفعل الممارسات القسرية وفصول الفساد والكيديات التي تجعل من نصوصه مادةً قابلة للتفجير ووطناً قيصرياً في آن.

هذا الإنشداد المتنامي منذ ال2005، تاريخ الخروج السوري من لبنان يستمرّ محكوماً بمعضلة ​التوطين​ الفلسطيني إلى معضلة ​النازحين السوريين​ الضخمة إلى المعضلة الإقتصادية والمالية وكلّها تراكم الإنقسام والتوتر والتحديات.

2- داوى السلم المنبثق من الطائف جروح اللبنانيين العميقة لكنه لم يسوّد الدماء الكثيرة فيها ولم يولد التفاعل الحضاري الديمقراطي، ولم يبرز سوى التقاتل على الحصص والمواقع وعدم التوازن في صلب ​المؤسسات الدستورية​ والإدارية المنبعثة من تحت الركام بعد شللها والتي يحظى بها سوى مطأطئي الرؤوس والهامشيين أمام زعماء الطوائف. النخب والطاقات مستبعدة وتهاجروالبطالة تزرع اليأس والغلاء والفروقات الطبقية مرعبة. كانت النتيجة اهتراءً كاملاً لأن الوطن دخل شكلياً في جمهورية جديدة لكنه مطبّع بتقليدية طائفية وإقطاعية بائدة ومناطقية هائلة في الحكم الممعن بالنهب جعلت الشروخ كبيرة مع الناس، ورفضت الأجيال الجديدة النظام القائم وأعرضت وتعرض عن ممثليه ، وباتت تنظر اليه تجمع سياسيين يتقاسمون الوطن. يشعر الناس وكأن الوطن القسري بات مؤقتاً أو مرحلياً في انتظار ظروف مستجدة يعود أطراف النزاع هم هم الى المناصب والمطالب والطروحات نفسها وكأننا في النقطة الصفر! حمل الدستور كنص دائري مقفل مجموعة من الإشكاليات الوطنية التي تحتاج الى العدالة في التوضيح والحوار والوفاق الوطني، تلافياً للإشتباك الذي كان ممنوعاً اقليمياً ودولياً ولا ندري إن كان الباب مشقوقاً اليوم لتصويب البنود الدستورية وعدالتها مع الحذرمن نسف الإتفاقات والعودة ألى مخاطر من نوع آخر.

من سيمثل من؟ ومن سينتخب من؟ ومن هو الذي سيقنع الناس فعلياً إن حصلت الإنتخابات؟

3- يفقد الدستور ذخائره الإقليمية والدولية وتوافقيته المفروضة بين الأطراف والطوائف. لقد أورث منطق التسوية التوفيقي التنازل عن أجزاء من الصلاحيات وتوزيع السلطة مغانم ومكاسب وحصصاً في ما بين الطوائف. لم تتغير الملاحظات الرافضة ل​إتفاق الطائف​. عادت وستعود الملاحظات الى مستوى التفسخ الوطني وارتفاع نبرات الإختلاف بشكل سيظهر فيه الوطن ممزقاً بين مطالب المعارضين المتنامين والموالين المنحسرين والمنبريين المستفيدين والمقاطعين والمستقلين المتقدّمين. يتوزّع لبنان مجدداً إذن بين من يعارض الوطن ويطالب بالسلطة أو يعارض السلطات كلها مطالباً بالوطن أو يعارض الإثنين معاً أو يقبلهما أو أنه خارج هذه الدوائر كلّها وفي حال من اليأس من عدم الوفاق الوطني الذي أورث مشاعر مثل تبادل الإحباط والإنكفاء وعدم المشاركة مقابل التفرد والفجور والإلغاء والإستقواء والإستعداء إن لم نقل الإستجداء في الحصول على الحصص والمناصب!

4- انّ المرجعيات الوطنية ، وبسبب من عدم الوفاق التاريخي، وخصوصاً في الصف المسيحي كانت وما زالت ربّما محكومة بالضياع والتمزق والتشويش لكنّ وضعها مشحون بالوعي المتجاذب مسيحياً اليوم بعدما حصرت المسؤولية في من أقصىاهم ويقصيهم وفي بعض المسيحيين أنفسهم لإستسلامهم وإغرائهم من دون مخارج وطنية.

كان لبنان الرقم الصعب لأن دولاً اقليمية شاءت الإستفادة منهم في إطار التحضير للمسألة الشرقية لمصالحها، وكان واجهة للغرب على المنطقة لكن المنطقة كلّها أصبحت واجهة الغرب. لم يعد هناك من شرق بالمعنى الغربي للكلمة. تحوّل وطنهم إلى ورقة يكتب فوقها الآخرون ومن يقرأ في اللامقال والتطلعات للبنانيين من خارج الدوائر المذهبية والطائفية يجد صورة لبنان نقطة تلاقٍ أخيرة نموذجية لكلّ المكونات الوطنية القائلة بلبنان أوّلاً وكأنها مستحيلة التحقيق.