كالنار في الهشيم، غزا الفيديو المسرّب لوزير الخارجية ​جبران باسيل​ ​وسائل الاعلام​، وبسرعة البرق ايضاً نقل مضمون كلامه الحالة السياسية في لبنان من مكان الى آخر. لا يمكن ان يتلطّى احد خلف اصبعه للقول ان العلاقة بين حركة "امل" و"​التيار الوطني الحر​" كانت شهر عسل قبل هذه الازمة، او ان الود كان مخيّماً على اجواء بعبدا و​عين التينة​، ولكن ما حصل في الساعات القليلة الماضية يوجب علينا جميعاً التوقف عند ابرز معالمه لتكوين فكرة عما ينتظرنا في المستقبل.

بداية، ظهر بما لا يقبل الشك ان الطائفية لا تزال تغرز انيابها في الجسم اللبناني مهما قيل خلاف ذلك، وان الشخصنة هي التي تتحكم في الحياة اللبنانيّة وليست الانظمة او القوانين او حتى الاحزاب، واي تعرض لاي شخصية رسميّة او زعيم سياسي ينقل المشكلة الى الطائفة التي ينتمي اليها.

ولكن الاخطر هو ان الخطأ الذي ارتكبه وزير الخارجية جبران باسيل، ووجه بخطأ آخر ارتكبه مؤيدو حركة "امل" ومحبّو رئيس ​مجلس النواب​ ​نبيه بري​ الذين نقلوا "عدّة العمل" الى الشارع مع ​اطلاق نار​ من أسلحة حربيّة، كادت ان تهدد الاستقرار الامني اللبناني الذي صمد بقوة امام مخطّطات ومشاريع مشبوهة لانظمة ارهابيّة استهدفت أمنه ووحدته. صحيح ان الاتصالات السياسية التي اجريت أدّت غايتها بعدم تمدد هذه الممارسات في الشارع، كما ان انتشار ​الجيش اللبناني​ ساهم في ضبط الامور، لكن الواقع يبقى ان اعتماد الشارع خطورة ما بعدها خطورة ويجب ان تبقى فعلاً لا قولاً.

تمكّنت الشخصنة ايضاً من التحكم بمسار الامور في البلاد، فساد الشلل العمل السياسي من مجلس الدفاع الاعلى الى مجلس النواب الى جلسات ​مجلس الوزراء​، فيما كانت مصادر بري تروّج الى ان الشّلل سيطال العهد والحكومة. وهذا دليل اضافي على أن أي زعيم سياسي بامكانه تعطيل البلد برغبة منه اذا شاء، اكان بري او رئيس الحكومة ​سعد الحريري​ او اي وزير او نائب، وهو امر بالغ الخطورة، ويجب النظر فيه بجدية لاننا لم نتعلم من التجارب السابقة في البتّ بالمواضيع بالطرق القانونية، لان قراءة ​الدستور​ وتفسيره كانت تتم وفقاً لنظرة ورغبة كل طرف.

أظهرت الازمة الاخيرة انها المرة الاولى التي يتعرّض فيها رئيس الجمهورية للنقد اللاذع المباشر على مواقع التواصل الاجتماعي، وفي الاعلام، وعلى الطرقات حيث انزلت صوره وقيل بحقه وبحق افراد عائلته كلام معيب. واذا كانت المفردات التي استعملها باسيل غير مقبولة، فإن تلك التي استعملت من قبل الآخرين غير اخلاقيّة ولا تعكس خلافاً سياسياً، بل "قلوب مليانة".

وبعد الخطأ "الباسيلي" الكلامي والخطأ "الأملي" الشارعي، كان لا بد من الوصول الى نقطة التقاء تمهد لهدوء العاصفة، فكانت المساعي التي أدّت الى اعلان بري حرصه على الاستقرار والوحدة واجراء ​الانتخابات​ في موعدها، وبيان مكتب الاعلام في ​رئاسة الجمهورية​ الذي اوضح وجهة نظر رئيس الجمهورية بأن ما حصل خطأ وما بني عليه خطأ ايضاً وبما معناه انه لا يجب الاستمرار البناء على الاخطاء، والتقى الموقفان على انه يجب الانطلاق في مسيرة التهدئة واعادة الوضع الى ما كان عليه، ليس فقط قبل الازمة، انما قبل مرسوم الاقدميّة لضباط دورة العام 1994، وهذا لا يعني بطبيعة الحال اشارات الغرام بين عون وبري، بل اشارات التهدئة والاحتفاظ بالتمنيّات السيّئة في القلوب، تمهيداً لاجراء الانتخابات التي لن تسفر عن فوز أحد منهما على الآخر وهو امر مؤكد.

هذا ما تعلمناه من الازمة الاخيرة، انما ما لن نتعلمه هو اننا لن نتخطّى الشخصنة في لبنان، وستبقى للاسف هي التي تتحكم في حياتنا السياسية والاجتماعية، وحتى... الامنيّة.