لا تقتصر أهمية الاستحقاق النيابي المقبل على ما سيُسفر عنه من أحجام تمثيلية للقوى السياسية التي ستخوض غماره في مجلس النواب المقبل، بل تتعداه الى استحقاقين آخرين سيبرزان في الواقع السياسي بعد الانتخابات. الاول يستحق فور تَولّي مجلس النواب الجديد المنتخب مهماته، ويتمثّل بالحكومة الجديدة رئيساً ووزراء ونِسَب التمثيل السياسي فيها. والثاني استحقاق انتخابات رئاسة الجمهورية في خريف 2022 الذي ستتبلور معالم المعركة التي سيشهدها عبر أحجام القوى المسيحية في المجلس النيابي. ولذلك يصف بعض السياسيين الاستحقاق النيابي الآن بأنه "ثلاثة استحقاقات في استحقاق واحد".

ويقول متابعون للاستحقاق النيابي انّ كل القوى السياسية ذاهبة الى خوض غماره، ساعية الى الفوز بأكبر عدد ممكن من المقاعد النيابية بغية استثمار حجمها التمثيلي في الاستحقاقين الدستوريين المقبلين: الحكومي أولاً، والرئاسي ثانياً.

فالطامحون، أشخاصاً وافرقاء سياسيين، الى تَولّي رئاسة الحكومة الجديدة مدعومين بما لهم من حلفاء سيكون هدفهم المركزي الفوز بعدد كبير، أو مقبول، من المقاعد النيابية لأنّ مثل هذا العدد يفتح لهم الطريق للفوز بالرئاسة الثالثة في هرم السلطة.

والطامحون، أشخاصاً وافرقاء سياسيين ايضاً، للوصول الى سدة رئاسة الجمهورية خريف 2022 خلفاً للرئيس العماد ​ميشال عون​، سيكون همهم الاساسي في الانتخابات هو الفوز بعدد كبير من المقاعد النيابية عموماً والمسيحية بالدرجة الاولى، تُضاف اليها مقاعد حلفائهم من القوى السياسية والطوائف الاخرى، الأمر الذي يمكّنهم في هذه الحال من الفوز في ​السباق الرئاسي​ عندما يحين أوانه.

لا يمكن لأحد التكهّن من الآن بمَن سيتولى رئاسة الحكومة الجديدة التي ستؤلف دستورياً بمجرد تولّي المجلس النيابي المنتخب مهماته، ولكن غالب الظن انّ هذا الموقع سيملأه أحد أعضاء نادي رؤساء الحكومة الحاليين والسابقين، الذي يضمّ الى رئيس الحكومة ​سعد الحريري​ الرؤساء ​نجيب ميقاتي​ وفؤاد السنيورة و​تمام سلام​ و​سليم الحص​.

البعض يتحدث من الآن عن أرجحية للحريري وميقاتي، إلّا أنه لا يمكن الجزم بأي شيء محدّد في هذا الاتجاه، الّا من خلال النتائج التي سيحصّلها كل من هؤلاء في الانتخابات النيابية، لأنه في ضوء الحجم التمثيلي لكل من هؤلاء تتحدّد أرجحية تسميته لرئاسة الحكومة من عدمها من خلال ​الاستشارات النيابية​ الملزمة بنتائجها التي يجريها رئيس الجمهورية لهذه الغاية.

وبنحو أو آخر فإنّ نتائج الاستحقاق الحكومي المقبل سترتبط حتماً بالاستحقاق الرئاسي لاحقاً، لأنّ من سيتولى رئاسة الحكومة لن يتردد في السعي الى بناء مصالح سياسية ترتبط عميقاً بالخيارات المتعلقة بانتخابات رئاسة الجمهورية عام 2022.

ولذلك سيكون ممكناً استشفاف هذا الامر من خلال التحالفات التي ستشهدها الانتخابات في 6 ايار المقبل، والتي يلوح منها في الأفق حتى الآن تحالفات عدة تتصل مباشرة او مداورة بخيارات ترشيح رئاسية يمكن استقراؤها من بعض ​الدوائر الانتخابية​ شمالاً وجبلاً، التي ينتمي اليها بعض المرشحين للرئاسة الاولى.

وفي هذا السياق يؤكد سياسيون متابعون انّ "تمريرات انتخابية" متبادلة تحصل الآن بين بعض القادة والاقطاب السياسيين في عدد من الدوائر الانتخابية، من شأنها أن تؤسّس لتعاون مستقبلي في ما بينهم حول الاستحقاق الرئاسي، خصوصاً أنه حصل بين هؤلاء اكثر من "ربط نزاع رئاسي" في هذا الصدد بين بعض الاقطاب والقوى السياسية البارزة وبين عدد من المرشحين الجديّين لرئاسة الجمهورية.

ويضيف هؤلاء انّ "ربط النزاع الرئاسي" هذا، إذا جاز التعبير، يأخذ في الاعتبار طبيعة المرحلة الراهنة داخلياً وإقليمياً، ويبدو انه سيستمر بعد تبلور نتائج الانتخابات النيابية، ولن يكون بعيداً في مناخاته والخيارات، عمّا سيكون اليه مستقبل الاوضاع في ​لبنان​ والمنطقة بين المرحلة السائدة الآن والمرحلة التي ستكون خريف 2022.

ولذلك، يقول هؤلاء السياسيون، انّ مجمل القوى التي ستخوض الاستحقاق النيابي المقبل عينها على الاستحقاقين الحكومي والرئاسي اللاحقين، ولكن ليس لدى أيّ منها ايّ وَهم في انها ستفوز ب​الاكثرية​ النيابية، لأنّ طبيعة ​القانون الانتخابي​ الذي يعتمد النظام النسبي وستُجرى الانتخابات على أساسه لا يُمكِّن اي فريق من الاستحواذ على هذه الاكثرية، وبالتالي التفرّد ببناء السلطة الجديدة، فأيّ اكثرية نيابية لا يمكن ان تتكوَّن الّا بعد تبلور نتائج الانتخابات، ويستحيل ان تكون هذه الاكثرية من لون واحد وإنما من مجموعة ألوان من الطيف السياسي والطائفي اللبناني، يفرضها التوافق حتى بين الاضداد، وهذا التوافق هو من طبيعة وثيقة الوفاق الوطني المعرفة بـ"إتفاق الطائف"، ما يعني انّ الحكومة المقبلة ستكون حكومة وفاق وتوافق وطني، والحال نفسها ستكون عند اختيار رئيس الجمهورية الجديد عام 2022، مثلما كانت الحال عند انتخاب الرئيس ميشال عون الذي بعدما كان مرفوضاً لدى فريق 14 آذار، أو على الاقل، لدى تيار "المستقبل" وحزب "القوات اللبنانية"، صار مقبولاً لديهما، والأمر نفسه كان سيحصل لو أنّ الرئيس سعد الحريري استمرّ في ترشيح زعيم تيار "المردة" النائب ​سليمان فرنجية​ لرئاسة الجمهورية قبل ان يتراجع عن هذا الترشيح لاحقاً لبعض الظروف والاعتبارات الداخلية والخارجية لمصلحة تَبنّي ترشيح عون.

على انّ بعض التحالفات الانتخابية التي تُنسج حالياً في بعض الدوائر تأخذ في الاعتبار مصلحة هذا المرشّح الرئاسي او ذاك، وخصوصاً في الدوائر ذات الطابع المسيحي والتي يتنافس فيها جميع المرشحين الرئاسيين المعروفين، وكذلك المرشحين غير المعلنين.

وإذ يقول ديبلوماسيون في هذا الصدد انّ بعض الترشيحات الرئاسية "قد سقطت أو أُسقِطَت أو استُبعِدت" بعد انتخاب عون رئيساً للجمهورية، يؤكد سياسيون في المقابل انّ هذه الترشيحات "عادت وانتعشَت" تحت جنح التنافس على التمثيل في المجلس النيابي المقبل، لأنّ المقعد النيابي يشكّل بالنسبة الى هذا المرشح الرئاسي او ذاك، جواز مروره الى الترشيح الرئاسي، إذ لا يمكنه ان يترشّح للرئاسة أصلاً في حال عدم فوزه بالمقعد النيابي على الأقل