كما وعد الرئيس الأميركي ​دونالد ترامب​ في حملته الانتخابية عشية فوزه برئاسة ​الولايات المتحدة​، قرر البدء بترجمة فرض سياسة تجارية حمائية للاقتصاد الأميركي من المنافسة الخارجية، وتجسد ذلك في إعلان ترامب فرض ضريبة جمركية 25 بالمائة على واردات الصلب و10 بالمائة على واردات الألمنيوم، وذلك لأجل وضع حد لخسارة الولايات المتحدة «عشرات المليارات من الدولارات في العمليات تجارية».

لكن هذا القرار من جانب ​أميركا​، يأتي من دون تنسيق أو اتفاق مع الدول التي لأميركا علاقات تجارية معها، ولهذا كان من الطبيعي أن يتسبب بردود فعل مضادة من قبل هذه الدول لاسيما الدول الأوروبية و​الصين​ و​البرازيل​ و​المكسيك​ الذين أعلنوا عزمهم اتخاذ إجراءات مماثلة.

الأمر لن يقتصر على مواد الصلب والألمنيوم، بل يبدو أنه سيشمل كل السلع التي تنتجها أميركا بغرض حمايتها من المنافسة الخارجية بما يؤدي إلى حماية الإنتاج المحلي الأميركي، ويراهن ترامب بأن تقود هذه السياسة الحمائية إلى خفض العجز التجاري الأميركي البالغ 800 مليار دولار.

غير أن الأسئلة التي تطرح، هل ستؤدي مثل هذه السياسة إلى حل الأزمة ​الاقتصاد​ية الأميركية وعودة الولايات المتحدة إلى سابق عهدها من معدلات النمو المرتفعة ومستوى الحياة الأفضل،أم انه سيكون لها تداعيات سلبية على طريقة الأواني المستطرقة؟.

أولا: الأكيد أن السياسة الحمائية سوف تؤدي إلى حماية الإنتاج الأميركي المحلي وانتعاشه داخليا بحيث يصبح الإقبال عليه من قبل الأميركيين باعتباره الأقل سعرا من السلع الأجنبية المماثلة. وبهذا المعنى فإن هناك فائدة بالنسبة للاقتصاد المحلي حيث سيزيد الإنتاج، كما سيؤدي انتعاش الإنتاج الأميركي إلى زيادة فرص العمل وخفض نسبة البطالة.

ثانيا: لكن الخبراء يرون أن ما تحققه أميركا من ناحية الحماية الجمركية، سوف تخسره من ناحية تراجع صادراتها إلى الخارج، لأن الدول الأخرى ستفرض ضرائب مقابلة على استيراد السلع الأميركية مما يحد من قدرتها على المنافسة في السوق العالمية.

ثالثا: أن العودة إلى سياسة الحمائية سوف تؤدي إلى اندلاع حرب تجارية بين الولايات المتحدة ودول العالم، عنوانها رفع الرسوم الجمركية، انطلاقا من مبدأ المعاملة بالمثل، وبوادر هذه الحرب عكستها ردود الفعل الأوروبية والصينية وتهديدات ترامب بالرد عليها، وتمثل ذلك في موقف رئيس ​المفوضية الأوروبية​ جان كلود بوبكر الذي علق على قرار الرئيس الأميركي بالقول: «إننا نعرب عن أسفنا الشديد لهذه الخطوة، التي تمثل تدخلا سافرا لحماية الصناعة المحلية الأميركية.. لن نجلس بلا حراك بينما صناعتنا تتعرض لإجراءات غير عادلة تعرض آلاف الوظائف الأوروبية للتراجع. سندافع في ​الاتحاد الأوروبي​ بحزم عن مصالحنا».

أما ترامب فقد سارع إلى تهديد أوروبا قائلا: «في حال قرر الاتحاد الأوروبي رفع القيمة الجمركية على الشركات الأميركية، والتي هي بالأصل باهظة، ببساطة ستفرض ضرائب على سياراتهم التي تدخل بلادنا مجانا».

رابعا: هذا السجال يؤشر إلى أن عودة أميركا إلى سياسة الحمائية إنما يشكل انقلابا على العولمة التي سعت أميركا إلى فرضها على قاعدة إزالة كل القيود والعوائق من أمام انتقال حركة السلع والأفراد وحركة رؤوس الأموال، وقد وفر ذلك الشروط المناسبة للشركات الأميركية والأوروبية المتعددة الجنسية لغزو الأسواق الدولية وتحقيق الأرباح الطائلة، حتى بات العالم لأكثر من عقدين، في أعقاب انهيار ​الاتحاد السوفياتي​، أمام عولمة غير إنسانية، عولمة يسيطر عليها رأسمال الريعي المتعدد الجنسية والذي حقق الأرباح الكبيرة عبر تحويل اقتصادات عشرات الدول في آسيا وأفريقيا إلى اقتصادات ريعية مربوطة بمركز المال العالمي في ​نيويورك​ الذي تسيطر عليه الولايات المتحدة. فلا يمكن لأميركا أن تعتمد سياسة مزدوجة في التعامل مع دول العالم، من جهة عولمة تخدم مصالح شركاتها المتعددة العالمية، ومن جهة ثانية عودة إلى سياسة الحمائية، لأن دول العالم لن تقبل بذلك.

والحال هذه فإن محاولة أميركا العودة إلى الهيمنة على الأسواق لرفع معدلات نمو اقتصادها إلى ما كان عليه في عقود مضت باتت مستحيلة، في ظل دخول منافسين أقوياء إلى الأسواق مثل الصين والبرازيل و​الهند​ و​روسيا​ وغيرهم من الدول التي احتلت مساحة من السوق العالمي ما أدى إلى تراجع حصة أميركا من الناتج العالمي إلى نحو 18 بالمائة، بعدما كانت تناهز الـ 60 بالمائة في الخمسينات والستينيات من القرن الماضي، قبل أن تبدأ هذه الحصة بالتراجع سنة بعد سنة والتي ازدادت تراجعا مع بدء مرحلة نهوض الصين في نهاية الثمانينات من القرن الماضي وصعودها السريع واحتلالها البلد الأول في تصنيع وإنتاج وتصدير السلع إلى العالم أجمع. فيما تحولت إلى مصنع العالم ومحط تطلعات الشركات العالمية للاستثمار، لاسيما الأميركية والأوروبية، لما تحوز عليه من فرص لإنتاج سلع قادرة على المنافسة، وسوق هي الأكبر عالميا.

انطلاقا مما تقدم فإن أميركا تستطيع العودة إلى الحمائية، لكن ذلك لا يجعلها قادرة على استعادة الماضي من مستوى النمو والحياة التي كانتا عليه في مراحل مضت ولم تعد التحولات الاقتصادية العالمية تسمح بعودتها، ولهذا بات عليها أن تقبل العيش وفق قدراتها ومعدلات نموها الجديدة التي تسمح بها وقائع المنافسة في السوق العالمية.