هذه الكلمة الروحيّة التوجيهيّة (​الصوم​) سوف يتقبلّها البعض ويفهمونها، وقد لا يفهمها البعض، أو قد يرفضها البعض الآخر. وهذا شيء ممكن أن يكون مباركاً لأن الاشتراك في هذا الموسم الذي تحتضنه الكنيسة هو إشتراك إراديّ طوعيّ. واشتراك ​الانسان​ إراديًّا وبقناعته هو الذي يعطي الصوم قيمته. لذلك لا تفرض الكنيسة دائماً الصوم فرضاً بكلّ جوانبه.

سوف أتناول في القسم الأوّل بعض المعاني عن الصوم وفي القسم الثاني بعض التوجيهات العملية. معروف أنّ هذه الفترة هي فترة تنقية، فترة تطهير للجسد والنفس وهذا هو الجانب السلبيّ في الجهاد الروحيّ، أن يحارب الانسان أهواءه، أمّا الجانب الايجابيّ للصوم فهو في ما يتعلّق بشوقنا الى الله ومحبّتنا للقريب. هذا هو الوجه الايجابيّ المشرق. لأنّ الانسان يتعرّى ويحاول أن يتجرّد ولو في فترات قليلة من عمره من أهوائه، من بعض عاداته السيّئة، من أنانيّته. لكنّه مدعوّ أن يحيا حياة الشركة في ​المسيح​ القائم فينا بالروح ​القدس​. هذا هو جوهر الموسم: أن يتحوّل الانسان، أن يريد تغيير نفسه، والكنيسة تساعده حتّى ينتقل من الهاجس الأرضيّ الى هاجس أسمى، روحيّ سماويّ. هل نريد هذا التحول؟ الصوم بجوانبه المختلفة يساعدنا لكي نقترب من الله، على حدّ قول القديس باسيليوس، ونقترب من القريب.

حسب ترتيب الكنيسة الطقسيّ في التهيئة، يمرّ الإنسان بخطوة التواضع، تواضع العشار "أللهم ارحمني أنا الخاطئ" (لو13:18). لا بد من انكسار. والخطوة الثانية هي خطوة الابن الشاطر المأخوذ نموذجاً للتوبة والعودة الى الاحضان الأبوية أي الى أحضان شركة الكنيسة.

هناك جملة للقديس غريغوريوس بالاماس تقول: "عندما ينقطع شخص عن وفاق الشركة وعن طاعة المعلّمين الشرفاء يبتعد عن النظر الالهيّ" (أي عن النعمة الالهية التي تصونه). لذلك يسعى الانسان دائماً إلى أن يكون في شركة الكنيسة حتّى يصبح محروساً بالنعمة الالهية.

وإذا انتقلنا إلى مرحلة أخرى، مرحلة الدينونة والغفران نرى كما تعلمون أنّه سوف نحاسَب قبل كلّ شيء على المحبّة. أي إنّ الصوم في النهاية هو تعبير عن المحبّة. إذا كان جهادنا لا يُوصِل الى تعبير عمليّ عن محبّتنا لأخينا، لا يكون صومنا صوماً حقيقياً. وعليه، فالغفران هو أيضاً تعبير عن محبّتنا للقريب.

على كل حال يبقى الصوم في الكنيسة موضوع نقاش، أعني سؤالاً مفتوحاً، مجالاً مفتوحاً للاختبار لا يُسبر غوره.

كيف يكون الصوم الحقيقي؟

النصوص التي تختارها الكنيسة للتلاوة تكشف عن بعض النقاط الرئيسية للصوم الحقيقيّ. من يقرأ انجيل متى الذي يُتلى في أحد الغفران (مت6: 14-21) لا بد أن يلفت نظره طابع الخفية عندما يتكلم عن الاحسان، عن الصلاة وعن الصوم وتعلمون ان الثلاثة مترابطة كما يقول القدّيس باسيليوس: "الصوم هو مثل طير له جناحان: الصلاة والرحمة لا يستطيع أن يطير وان يحلّق بدون جناحيه". ويضيف أنّ الصوم يعطي للصلاة قوة أكثر يزيدها حرارة وكذلك الرحمة.

إذاً هناك طابع الخفية كما ذكرت سابقاً. “فمتى صنعتَ صدقةً فلا تعرف شمالك ما تفعل يمينك لكي تكون صدقتك في الخفاء”(مت6: 3-4). “أنت متى صليت فادخل إلى مخدعك وأغلق بابك وصلِّ إلى أبيك الذي في الخفاء فأبوك الذي يرى في الخفاء يجازيك علانية”(مت6:6).

وطابع الخفية شيء مميّز. علينا أن لا ننساه. لذلك يقول “فمتى صمت فادهن رأسك واغسل وجهك ولا تكن كالمرائي”(6: 16-17).

الرب ينتقد قبل كل شيء المراءاة، الكذب، حبّ الظهور والمجد الباطل والشكليّات والواجبات والمظاهر البطّالة. لذلك المنفعة الرئيسية تبقى في الخفية. علاقتنا مع الربّ هي قبل كلّ شيء وآخر كلّ شيء في القلب “لأنكم قد مُتّم وحياتكم مستترة مع المسيح في الله”(كول3:3).

وكذلك أشعيا النبّي يقول(58: 6-7): “أليس هذا هو الصوم الذي آثرته: حلُّ قيود النفاق وفك ربط النير وإطلاق المضبوطين أحراراً وكسر كلّ نير. أليس هو أن تكسر للجائع خبزك وأن تُدخل البائسين المطرودين بيتك واذا رأيت العريان أن تكسوه وأن لا تتوارى عن لحمك”.

هذا ليُظهر أن هدف الصوم هو المحبّة. له طابع المحبّة وله طابع الشركة. إذا كان هذا هو الصوم الذي نريده، إذا أراد كلّ واحد منّا أن يتحوّل إلى هذا الوجه، ماذا يجب عليه أن يعمل؟.

التطبيق العملي

هذا المعهد يعطي بعض الفرص، والفرصة الأولى هي الخلوة السنويّة. هل لها فائدة إذا أراد الطالب أن يستفيد؟ هل يجني من هذه الأيام القليلة ثمراً؟ هذا يعود إلى خبرتكم. تبقى على كلّ حال فرصة للاختبار. لأنّ الدروس تتوقّف ولا بدّ أن تتوقف في وقتٍ ما، أي لا بدّ للطالب أن يعيش أن يطبّق ما قد تعلّمه. ألإنسان المعاصر يريد أن يفهم كثيراً ويطبّق قليلاً. جئنا لندرس ونعرف لكن يجب ألاّ ننسى أنّ الغاية أيضاً هي في أن نطبّق آخراً. هي فرصة لكي يعود الانسان إلى ذاته ويقف أمام نفسه وأمام الله. إنْ أراد الواحد منّا رغم كلّ الصعوبات أن يصلّي ويقرأ ويتأمل ويشترك في الصلوات ويسمع الأحاديث، له الفرصة لذلك. على الأقلّ يكون قد كسر الروتين والنظام العاديّ. وله الفرصة أن يصمت. أيلزمنا دائماً أن نتكلم؟ هل لدينا فراغ حتّى نلجأ إلى الكلام لكي يسدّ فراغ حياتنا؟ والصمت ليس فقط عدم الكلام. الصمت الروحي هو أن نتيح لله أن يتكلّم فينا. أن نتدرّب على قراءة الكتاب المقدّس والكتب الروحيّة وسير القديسين على انفراد.

والفترة لا تقتصر على يومين او ثلاثة، لكنّها تمتدّ الى الموسم كلّه. فرصة ليجتهد الواحد الذي هو عضو في شركة الكنيسة لكي يصير إنساناً روحيّاً. أن يتدرّب كيف يعيش روحيّاً قبل أن يعظ الآخرين. كيف يمكن له أن يسعى لكي يفعل فيه روح الله لا الجسديّات.

ماذا يمكن لنا أن نفعل أيضاً؟

هل نشاهد التلفزيون في هذه الأيام؟ هل يعترف الطالب في هذه الفترة؟ هل يفيده الاعتراف؟ وكيف ولمن يعترف؟ وكيف نختبر هذا السر ونعيشه؟ قال مرة رئيس دير وهو يتكلم عن الطاعة والاعتراف: "إن سيرة الانسان العضو في الجماعة هي بمثابة اعتراف". وقال أيضاً: "إن الطاعة لا تكون فقط لشخص الرئيس. انما الطاعة هي أيضاً للنظام المعمول به في الجماعة. اذا كان العضو يتقبل بتواضع النظام الموجود، اذا كان يتقبل الآخرين، يتقبل هذه الشركة التي سمح بها الرب لكي نعيش فيها لمجد الله لا لمجد أنفسنا، هذه النعمة الكبيرة إذا تقبلها يحصل على بركة كبيرة".

هل نستطيع فعلاً أن نتغيّر؟ هل نريد أن نكتسب هذه الذهنيّة الجديدة؟ هل يريد الواحد أن يتمسّك بنفسه او نريد ان نصبح على شبه المسيح الذي قَبِل الكلّ: الأخيار والأشرار، الخطأة والصديقين؟ هل نريد أن يكون لنا هذا الحسّ الجديد؟ لماذا جئنا؟ لنتذوّق الحياة المشتركة التي هي هبة مجانيّة. هذا هو هدف الصوم. أن نكتسب هذه الذهنيّة الجديدة.

الخلاصة

إذا لمسنا تجدّداً في علاقاتنا بعضنا مع البعض ومع المسؤولين، نكتشف المسيح، ويُعْرَف المسيح. لا بد للواحد أن يكون له رؤية تطلّع الى اين يريد أن يصل. ونحن نتمسّك بهذه الرؤية الانجيلية ونريد أن نسخّر كلّ شيء لها، ولو اضطررنا أن نتخلّى عن أنفسنا. وما هي رسالة الكنيسة سوى أن تدربّنا على التخلّي عن الأنانية؟ إذا كان الصوم يعطينا فرصة لنخرج من أنفسنا ونلتقي بالآخر فأهلاً به. لذلك قال الربّ “إدهن رأسك واغسل وجهك لكي لا تظهر للناس عابساً”. هذا لكي يظهر النور على وجهك. المقصد هو أن نستنير مثل القدّيسين. لذلك نتمنى عليكم أن نحاول كلّنا اكتساب شيء مفيد في هذا الموسم ابتداءً من الأيام الأولى، حتّى يستمرّ في حياتنا وحياة كلّ الأشخاص الذين بمعونة الله سنكون مسؤولين عنهم. آمين.