لماذا يصل الإنسان المبدع أحيانًا إلى عبثيَّة الوجود وفقدان طعم الحياة؟ الجواب هو: الألم الَّذي لا يُفضي إلى شفاء، يدفع الإنسان إلى الانطواء على نفسه ويقوده إلى التمحور حول ذاته.
هذا الأمر يجعل مرجع الإنسان هو ذاته، فينغلق على نفسه ولا يعود يتقبَّل أيَّ شيء لا يصدر عن ذاته. وبما أنَّ الذات البشريَّة لا يمكن أن تُشبع ذاتها، فإنَّها تفرغ في النهاية، مهما سمت وارتفعت، وتترك صاحبها يعيش فراغًا رهيبًا وقاتلًا، «صحراء من العطش». عندها، لا يعود الإنسان يرى سببًا للاستمرار في الحياة، لأنَّها لم تعد تعطيه شيئًا جديدًا، فيعيش حينها كآبة ما بعدها كآبة، وخيبة أمل ما بعدها خيبة، ووحدة ما بعدها وحدة. ولا يعود يُرضيه شيء، فيصبح إنسانًا مزاجيًّا ومتقلِّبًا. هذا تخبُّط داخليٌّ كبير، يفقد فيه الإنسان سلامه الداخليَّ.
تسمعه يطلب الكمال، لكنَّه لا يجده. هذا كلُّه يجعل الإنسان في النهاية عبدًا وسجينًا في سجن ذاته، وتصبح قراراته الحياتيَّة غير متَّزنة، وتغدو علَّة وُجوده في خطر، ويفقد الثقة بمعظم المحيطين به، ويرفض كلَّ إرشاد ونصيحة.
قد نرى هذا الإنسان ودودًا مع الناس، ومتعاطفًا مع المتألِّمين والفقراء والمحتاجين ومعينًا لهم، إلَّا أنَّ ما يجري في داخله هو نار تأكله يومًا بعد يوم. وكثيرًا ما يكون جالسًا مع نفسه، يتصارع مع الله، يتحدَّاه بأن يظهر له، وربَّما يشتمه.
لماذا كلُّ هذا؟
لأنَّه، في الحقيقة، بحاجة إلى رفيقٍ حقيقيٍّ، يعزِّيه حضورُه، لكنَّ انغلاقه على نفسه يجعله عاجزًا عن الانفتاح على الله، فيصبح قلبه مضطربًا، وثائرًا حتَّى على ذاته، فيفقد حسن التمييز والبصيرة ونقاوة الرؤية.
فلا عجب في أنَّ ربَّنا يسوع المسيح قال: «طوبى لأنقياء القلب، لأنَّهم يعاينون الله». الإنسان خَلَقه الله، ولا يرتاح إلَّا بالله. والله تجسَّد وصار إنسانًا، لكي نعرفه، ويتَّحد بنا، ويكون رفيقنا وأخانا وحبيبنا ومعشوقنا، لأنَّه أحبَّنا أوَّلًا. قال لنا: «سلامي أُعطيكم، لا كما يُعطيه العالم». وقال أيضًا: «تعلَّموا منِّي، فإنِّي وديع ومتواضع القلب، فتجدون راحةً لنفوسكم».
كثير من المبدعين في العالم يعيشون ما يُسمَّى بـ «الإفورية euphorie»، وهي حالة من النشوة أو السعادة المفرطة يدخل فيها المبدع أو الفنَّان بعد إنجاز إبداعيٍّ كبير. تكون في بعض الأحيان غير متناسبة مع الواقع. نشوة النجاح هذه تتحوَّل لاحقًا إلى خطر داخليٍّ إذا لم تُضبط، لأنَّها قد تقود إلى الفراغ أو العبثيَّة. الخلق ضرورة حيويَّة للفنَّان والمبدع، لكنَّ هذا الخلق يولد، في كثير من الأحيان، في صحراء من الصدى. قلَّة من الناس يفهمونه.
وعند المبدع حاجة كبيرة إلى التعبير عمَّا تعجز الكلمات عن قوله، لذا هو يسعى إلى ترجمة ما لا يُقال، إلى لمس السرِّ من خلال الشكل، لكن بالمقابل كلُّ عمل منتهٍ غالبًا ما يخلِّف شعورًا بعدم الاكتمال، بالخيانة: «ما أشعر به أعظم ممَّا أقدر على إيصاله».
هذه الخيبة الداخليَّة هي الصراع اليوميُّ مع الحدود الذاتيَّة، مع الشكوك، ومع النظرة النقديَّة المفرطة للنفس. إنَّها تلك الحيرة الخانقة من تحقيق ما يشعر به.
هناك خيبة أخرى خارجيَّة تأتي من العالم، فيأخذ المبدع قرارات قد يظنُّها صحيحة، ولكن لأنَّها ناتجة عن عاطفة مشتعلة فقد تأتي أحيانًا خاطئة.
فالمبدع يكشف روحه، ويعطي من روحه، والعالم بالمقابل يتفاعل مع روحه، ولكن هذا لا يرضيه. فيدخل المبدع بضجيج داخليٍّ مع أنَّه يبدو من الخارج في حالة سكون، ويصبح الصمت جرحًا يكبر يومًا بعد يوم. فيتابع الخلق بألم وانطواء على أمل أن يُفهم، ولكنَّ هذا لا يحصل. فيصبح العالم بالنسبة إليه عديم النظر والإحساس والسمع. وإن ابتسم نشاهد ابتسامته ولكنَّنا لا نرى ألمه خلف الابتسامة.
قال الفيلسوف ألبير كامو يومًا: «العبث يولد من هذا الصدام بين النداء الإنسانيِّ وصمت العالم غير المعقول». ولكن عندما يقع المبدع في فخِّ العاطفة، يصبح هو أيضًا من صفوف العالم الصامت تجاه من لا يشعر تجاههم بعاطفة، فيصبح الحبُّ في هذه الحالة حبًّا مكسورًا، هو يتألَّم به ويؤلم غيره أيضًا.
كذلك الثورة الداخليَّة غير المنضبطة توصِل الإنسان إلى العبثيَّة، فيمرُّ بألم نفسيٍّ شديد للغاية يصدر منه إبداعات، ولكنَّها في الوقت نفسه تمزِّق (Déchirure)، وتُولِّد طاقة ترتدُّ على صاحبها وتجرفه.
كما أنَّ النجاح الكبير والإبداع يعطيان إحباطًا (frustration)، وخوفًا وقلقًا: من جهة -خوفًا من فقدان ما تحقَّق- ومن جهة أخرى، لا توجد مكافأة تُرضي المبدع. فهو يشعر أنَّ شيئًا من ذاته خرج منه، بل ذاته كلُّها. وهذا ما يجعله يتخبَّط بين الرضى والحزن في آنٍ معًا. هذا كلُّه يخلق عدم توازن داخليٍّ وتشتُّتًا كبيرًا، ويُحدث فراغًا نفسيًّا هائلًا. والحقيقة عنده تصبح ذاتيَّة، أي أنَّ أفعالنا هي حقيقتنا، ولا توجد حقيقة مفروضة من الخارج.
في الخلاصة، قال جان بول سارتر: «الإنسان ليس شيئًا سوى ما يصنعه بنفسه»، أي إنَّ الإنسان لا يملك جوهرًا ثابتًا يُولد به، بل هو نتيجة أفعاله، قراراته، ومسؤوليَّته عن تشكيل ذاته.
أمَّا المسيحيَّة فتقول: نحن خُلقنا لنكون هياكل الله، أيقونات حيَّة، والربُّ يسوع المسيح وحده يملأ الفراغ والبحث الوجوديَّ عند كلٍّ منَّا.
وما من ألمٍ إلّا ويشفيه يسوع، لأنّه هو المبلسم، وهو لا يفوّت فرصةً إلّا ويحاول التقرّب من كلِّ موجوع، لأنّه المحبّة الكاملة، بل أكثر من ذلك. هو يتألّم مع المتألّم ليرفعه إلى العُلى.
إلى الربِّ نطلب.