يقع نصي في مثلث متساوي الأضلاع ظاهرياً، يوحي بالتناغم المسكون بالحرية عنوانه ​لبنان​؛ لكنها الحرية التي تقوّض الكثير من مقومات الأوطان. قد يغص النص في الإفصاح الكامل أحياناً عندما ترتجف الحريّة في زواياه؛ توقاً للمسؤولية؛ ومناداة للحفاظ على الهوية والاستقرار، أو عندما تتكاثر زوايا وجهات النظر الوطنية، فتفقد شيئاً من توازنها؛ لتعيش الأوطان عبر ​الصحافة​ والشاشات المستوردة البرامج ضمورها القاسي وتشابكاتها الوطنية المؤلمة. عندها تطفو مساحات الاختلاف على المستقبل بين ما هو مخبوء ومستبطن أو ما هو مقال ومعلن ومبثوث ومسلٍّ ولاهٍ للجماهير؛ لكنّه يضرب الأسس، بما يحد من تراكم الإشعاع التاريخي والإبداعي في الزوايا المبثوثة في أرجاء الوطن. من يستيقظ على استراتيجيات الإعلام ويفككها؛ حيث لكلّ تغيير إعلامه الخاص الاستراتيجي المدروس.

1- عندما توقف شاشة ال «M.B.C» جميع المسلسلات التركيّة من على شاشاتها نفهم سريعاً ردود فعل أو موجات الانتقاد السريعة للعيون والقراءات الأفقية على مواقع التواصل الاجتماعي، التي استغرقت في ظاهر تلك المسلسلات لا في جذورها وأعماقها ومراميها. قد يكون كسر العادات للعيون والأذهان المسترخية صعباً؛ إذ تنزاح ​تركيا​ لمصلحة الأعمال الدرامية البرازيلية أو غيرها؛ لتعبئة الفراغات المؤقتة. لن نسرد أجيال المسلسلات الجميلة للعين والبصر؛ لكنها خطرة للبصيرة والمصائر. هناك استراتيجيات مقننة وأكثر من مدروسة عند اتخاذ قرار التغيير. والتغيير يصبح خطراً إن لم ينتبه لما يضمره الغير. ولو تذكّرنا أن منظومة الاتحاد السوفييتي قد سقطت عبر شاشة التلفزيون قبل سقوطها السياسي والاجتماعي، لأمكننا ضرورة الانتباه الكامل للشاشات التي تسبق السياسات وتنافسها وتقوضها وتدمر عبرها المجتمعات. قد يسأل أحدهم: ما العمل: تراجع في أعداد المشاهدين ومردود الإعلانات؟ ربما، لكن الأوطان لا يمكن اقتناء استقرارها بالقصف والعصف عبر الشاشات. أليس في هذا القرار دعوة واضحة للمبدعين والمنتجين في مصر ولبنان وبلدان ​الخليج​ للعمل الدؤوب وإنتاج المزيد من المسلسلات والبرامج الدرامية النوعية في بلادٍ لا تغريها الشاشات التي تتعامل مع مواطنيها بصفتها ساحات. كيف؟

2- قبل نصف قرن، شغلت عضو مجلس إدارة ​تلفزيون لبنان​ ومديراً منتدباً لشؤون البرمجة والإنتاج، وقد عرض عليَّ بث مئات الساعات والبرامج المجانية مقابل شراء برنامج «سفينة نوح»، ورفضت العرض كله؛ بسبب الأفكار والمشاهد الملغومة، التي تتجاوز ما صار يستعمل الآن في القول ب«مصطلح التطبيع». يكمن الحفاز الأكبر الذي زاد من انشغالي بالصحافة هو الحفر؛ لتعميق التوضيح بين الصحافة اللبنانية والصحافة في لبنان. هناك فرق كبير! الصحافة اللبنانية بين 1851- 1943 كانت مقالع عروبة تضجّ بالحرية والأحرار ومناهضة الأتراك والفرنسيين وكل من تهادى غازياً فوق شواطئ العرب؛ لكن الصحافة في لبنان من 1943 حتى الأمس القريب وحلول عصر الشاشات والساحات، كادت بمعظمها تساهم في قتل لبنان، ونسف استقلاله وحريته ومحو دوره عن خريطة التاريخ الجميل، الذي ما زال يعلق بوجه العرب ووجدانهم وألسنتهم وتطلّعاتهم. يجرّ حرف الجر هذا بين الصحافتين المذكورتين خلفه تاريخاً مراً ودموياً من الصحافات الكثيرة المستوردة التي اتخذت من لبنان منصة لصراعاتها وانقساماتها. كان وربما ما زال هناك إمكانات دولية وعربية ساعدتنا في التذكير أوالربط المسؤول بين وقف الحملات الإعلامية ووقف ​إطلاق النار​ في تاريخنا القريب.

3- صحيح أن لبنان هو مثال أو «ميديا ستيت» كما سميته في مؤلفاتي ومحاضراتي؛ لكن الأصح أننا انتقلنا من الصحافة إلى الإعلام الذي يظهر أدوات خطرة مباحة ومستباحة في ما يسمونه الساحة تدليلاً على الوطن. للساحات أعباؤها في التاريخ. نحن اليوم ساحات أو جزر صغيرة محلية تكاد تبدو شبه مقفلة. لكل ساحة مذهبها وأحزابها وزعماؤها متفقين كانوا أم متباعدين ولكلّ نشيده وعلمه ولونه وجمهوره وأسلحته الظاهرة والمخبأة وله مشفاه ومدرسته وجامعته وله ما هو أهم من ذلك جمعياته وعدته الصحفية والإعلامية وشاشاته وإذاعاته ومواقعه التواصلية. وفي مقابل هذا كله يتوزع محازبوه من كافة المناطق على إدارات الدولة ويتحكم بمفاصلها في حمى من الصراعات والتجاذبات اليومية الطائفية والمذهبية، وهؤلاء يؤلفون اليوم 40 في المئة من لبنان العتيق، الذي يُقبِلُ على الانتخابات البرلمانية وكأنه يعيش المرحلة الانتقالية الأخيرة في ​تاريخ لبنان​، التي ستأخذك إلى الحرب أو إلى الحرية بمعنى التغيير. يظهر هذا في إعلام يستدعي ركام الحروب مفرغ المضامين يعبق بالارتجالية وردود الأفعال المقلقة إلى حصار مالي يحاصر ما بقي من اللبنانيين في الداخل والخارج.

بعيداً من السياسات وبعد كل هذه الخرائب أمامنا، ألا تستحق المجتمعات العربية الركون إلى تداول الخبرات النظيفة بحثاً عن استراتيجيات الوقاية والصيانة الإعلامية بما يصب في إعادة صناعة الوعي العربي وتأمين التغيير المدروس والاستقرار؟