أن يقول رئيس الحكومة ​سعد الحريري​ إنّ "بيروت غاضبة" بسبب محاولات "وضع اليد على قرارها"، من خلال تشكيل لوائح في مواجهة لائحة "​تيار المستقبل​" في العاصمة، وأن يصف وزير الداخلية ​نهاد المشنوق​، المرشح على لائحته، بعض خصومه بـ"الأوباش"، لا يبدو خارجاً عن سياق "البازار الانتخابي" السائد في هذه المرحلة، أو لعلّ توصيف "الجنون الانتخابي" يبدو أدقّ.

وأن يصوّب الحريري على "خصومه" في ​طرابلس​، من رئيس الحكومة الأسبق ​نجيب ميقاتي​، إلى وزير العدل الأسبق اللواء ​أشرف ريفي​، فأمرٌ متوقَّعٌ أيضاً لا يدعو إلى الاستغراب، أياً كانت الأوصاف التي ينعتهم بها، ولكن أن يصل الأمر إلى حدّ اتهامهم بـ"خدمة" المشروع المضادّ، أي مشروع "​حزب الله​"، فيستدعي السؤال عمّا إذا كان "المستقبل" قد وقع في "فخّ" ما يتّهم "حزب الله" به، من "تخوينٍ" للخصوم، الذين لا ذنب لهم سوى أنّهم "يجرؤون" على مواجهته في عقر داره...

عقليّة واحدة؟

حين وصف الأمين العام لـ"حزب الله" ​السيد حسن نصرالله​ في لقاءٍ مع كوادر حزبه المرشحين المنافسين للائحة "الأمل والوفاء" في دائرة ​بعلبك الهرمل​ بأنّهم مرشحو تنظيمي "داعش" و"​جبهة النصرة​"، في استراتيجيّة أراد من خلالها اللعب على عواطف وغرائز الجمهور المؤيّد لخطّ الحزب المقاوم، والمتردّد بسبب عدم رضاه عن الخط الإنمائي الذي انتهجه نواب الحزب على امتداد السنوات الفائتة، ثارت ثائرة الكثير من اللبنانيين، وفي مقدّمهم "تيار المستقبل".

لا غرابة في ذلك، باعتبار أنّ من غير المنطقيّ اتهام حزبٍ، أيّاً كان هذا الحزب، جميع خصومه من دون استثناء، بأيّ اتهام، على غرار "دعم ​الارهاب​" مثلاً، فقط لأنّهم يخوضون المنافسة الانتخابية في وجهه، وهو حقٌّ يفترض أن يكون مقدّساً لهم بموجب الدستور والقانون، علماً أنّ بين المرشحين المنافسين للحزب في الدائرة البقاعية "حلفاء استراتيجيين"، مثل "​التيار الوطني الحر​" الذي لم ينخرط في لائحة "الأمل والوفاء" بعد خلافاتٍ على توزيع المقاعد والحصص والأسماء. ولعلّ هذا الأمر هو الذي دفع السيد نصرالله إلى "توضيح" ما قصده في أكثر من خطابٍ لاحق، بالإشارة إلى أنّه لم يكن يقصد بكلامه جميع المرشحين، بل فئةً محدّدة لطالما اتهمها بدعم المجموعات المتطرفة، وخصوصاً في مرحلة ما قبل ​معركة جرود عرسال​ الشهيرة.

الغرابة هي في مكانٍ آخر، هي في أن يتبنّى هذا الخطاب "التخوينيّ"، على الأقل من وجهة نظر البعض، تيّارٌ كتيّار "المستقبل" الذي كان أول من تصدّى له، بل حوّله إلى مادةٍ دسمة في خطاباته الانتخابيّة يصوّب من خلالها على "الحزب"، بما يخدمه انتخابياً. ويرى هؤلاء أنّ خطابات رئيس التيّار سعد الحريري في مهرجانات إعلان اللوائح التي تكثّفت خلال عطلة نهاية الأسبوع لم تكن أفضل حالاً. من بيروت إلى عكار إلى طرابلس، صوّب الحريري سهامه بشكلٍ مباشرٍ على أولئك الذين يخوضون المعركة ضدّه، معتبراً بكلّ بساطة أنّهم مخادعون، وأنّهم يخدمون "حزب الله" وأجندته، ويريدون إعادة ​الوصاية السورية​، طالما أنّه أصلاً يخوض معركته في وجه الحزب، علماً أنّ هذا المنطق يحتمل أن يكون معكوساً، على اعتبار أنّ الحريري أيضاً رفض التعاون مع هؤلاء، إذا افترضنا "وحدة" عناوين المواجهة السياسية فيما بينهم.

المعركة الحقيقيّة

وإذا كان خطابا "الحزب" و"المستقبل"، ومعهما معظم القوى السياسية التقليديّة، يعكسان عقلية واحدة في مقاربة الاستحقاق الانتخابيّ، قد تكون مشرّعة في الزمن الانتخابي الصعب والحرج، فإنّ مفارقة أخرى تبدو مثيرة للانتباه، تتمثّل بموجة، أو ربما موضة، الانسحابات التي يتمّ إعلانها، وهو ما برز في الأيام الأخيرة من خلال الانسحابات التي تمّ إعلانها من بيت الوسط، والتي لم تبدُ بريئة، وعلى رأسها مثلاً انسحاب النائب ​خالد الضاهر​، الذي كان يعمل منذ أشهر على تشكيل لائحة مع اللواء أشرف ريفي بعدما وضع يده بيده، فإذا به يكتشف فجأة أنّ أداء الأخير السياسي سيء، بل أنّه يخدم "حزب الله"، كما قال عبر الاعلام.

لكن، أبعد من كلّ هذه التفاصيل والتركيبات، يمكن القول إنّ الخطابات الانتخابيّة لتيّار "المستقبل" في الأيام الماضية أبرزت واقعاً لم يعد بالإمكان نكرانه، وهو أنّ معركته الحقيقيّة والجدية ليست مع "حزب الله" بقدر ما هي مع خصومه على الساحة السنّية، ولو أوحى الظاهر بغير ذلك. فإذا كان صحيحاً أنّ الرجل حافظ في خطاباته على "ثابتة" التصويب على "حزب الله"، بوصفه عنوان المعركة التي يخوضها، وهو عنوانٌ شعبوي بامتياز في مناطق ثقله من دون شكّ، ولكنّ الصحيح أيضاً أنّ التصويب الفعليّ لم يكن عليه بقدر ما كان على "الآخرين"، الذين تفنّن "المستقبليون" في توزيع الأوصاف عليهم، من "بطل العالم في قلة الأخلاق" إلى "شركاء الوصاية" مروراً بـ"الأوباش" الذين تحدّث عنهم المشنوق، ولم يكن يقصد بهم "حزب الله" و"أمل"، باعتبار أنّه وضعهم في خانة "الخصوم إلى جانب الحزب والحركة و​الأحباش​".

وإن دلّ هذا الأمر على شيء، فعلى خشية "المستقبل" من أن يأخذ هؤلاء الخصوم "المستجدّون" من كيسه، نتيجة "لعنة" الصوت التفضيلي، إذا جاز التعبير، لا "حزب الله" على وجه الخصوص، وإن كان لا يحبّذ أن يخرق الأخير المقاعد الشيعية في لوائح "المستقبل"، كما يطمح، ولعلّ المشنوق كان الأكثر وضوحاً على هذا الصعيد، حين انتقد القانون "اللئيم والخبيث"، كما وصفه، وذهب لحدّ الحديث الصريح عن خوفه من أن تصبّ كلّ الأصوات التفضيلية في بيروت لصالح الحريري، فيسقط هو والآخرون على اللائحة معه "ضحية" مثل هذا السلوك. أما في طرابلس، فتبدو المشكلة مضاعفة، في ظلّ ما يُحكى عن أنّ لائحة "المستقبل" لا تضمن أكثر من مقعد سني واحد من أصل خمسة، باعتبار أنّ ميقاتي وريفي، وكذلك الوزير السابق ​فيصل كرامي​، يضمنون ثلاثة مقاعد، ليبقى المقعد الخامس خاضعاً لمنافسةٍ تبدو حامية بين لائحتي "المستقبل" وميقاتي، وريفي بدرجةٍ أقلّ.

الغاية تبرّر الوسيلة...

في النهاية، يبدو أنّ الثابت الوحيد في المعمعة الانتخابية، أنّ كلّ المحظورات باتت في خبر كان، وأنّ كلّ الأفرقاء يعملون وفق مبدأ واحد، أساسه أنّ "الغاية تبرّر الوسيلة".

هكذا، يصبح من حق "المستقبل"، شأنه شأن غيره من الأفرقاء السياسيين، أن يقول ما يشاء بحقّ خصومه، سواء التاريخيين أم المستجدّين، لعلّه ينجح في انتزاع أصوات تفضيلية إضافية هنا وهناك، في ظلّ قانونٍ يجعل لكلّ صوتٍ قيمته.

باختصار، الزمن زمن ​انتخابات​، ومعه يصبح كلّ شيء مباحاً، ومن اليوم وحتى السادس من أيار، سيكون اللبنانيون على موعدٍ مع فصولٍ بالجملة لمسرحيّةٍ استعراضيّة أكثر من مشوّقة، ولو كانت نهايتها مكتوبة سلفاً...