تاريس يعشق صورته، ومعجب بذاته

في الميثة Le Mythe الاغريقية يجلس نارسيس على حافة البحيرة الهادئة ينظر الى وجهه ينعكس في ​المياه​ فيغرم بصورته او بذاته ولا يسمع ولا ينظر الى حوريات الغابة الجميلات ينادينه ليلتفت لهن ويخرج من ذاته ليلتفت لهن ويخرج من ذاته ليلتقي بهن بين اشجار الغابة المحيطة بالبحيرة تمر الحوريات الرائعة الجمال ينادين نارسيس لينظر اليهن ويلحق بهن ويعشق ويحب واحدة منهن، آملات منه ان يخرج من الهيام بذاته والشعق لجماله وهو يتمرّى في المياه حيث لا يرى الا بهاء وجهه وجمال طلعته، معجب هو بنفسه، مغرم بذاته، مسحور بوجهه دون النظر الى أوجه الآخرين، هو كل شيء لذاته وهو محور العالم.

ولكثرة تعلقه بجمال ذاته والالتصاق بوجهه في البحيرة حتى انه ينزل اليه ليلتقيه ويختنق لانه لم يسمع لنداء الحب عند سواه ولا لسحر الاخر الذي ينظر اليه فيعطي معنى لحياته وجماله. وازهرت في البحيرة زهرة النرجس وبقي الصوت يتردد في الغابة: نارسيس! نارسيس! انها قصة الاعجاب بالذات.

المراهنة والحالة النرسيسية

هذه الحالة النرسيسية ترافق خاصة عمر المراهقة حيث يأخذ ​الانسان​ ذكراً كان ام انثى بالوقوف امام المرآة والاعجاب بجمال وجهه وجسمه وكلامه وافكاره واعماله. لكنها تزول رويداً رويداً مع النضج ولقاء الآخرين واكتشاف غناهم فيأخذ الانسان شيئاً فشيئاً بالتوقف عن الانبهار بذاته ومديح نفسه وكثرة مزاياه لينطلق بعملية حب واحترام للقاء الآخر ومرافقته ومشاركته الوجود والحياة والافراج والاحزان، والاصغاء اليه والاغتناء به...

نرسيسية الانسان الشرقي العربي

مشكلة الانسان الشرقي المكبوت المعقد هي هذه المراهقة الدائمة والمستمرة حتى ولو تقدم به السن والوصول الى ​الشيخوخة​. هذا ما نلاحظه في الكثير من التصرفات المرضية والتغزل المرضي او في الكبت والقهر والقمع واجبار ​المرأة​ على التحجب واخفاء كل ما عندها من فتون واثارة وجمال تحت لون اسود يقبر الحسن وما اعطى الله من جمال الحجاب له وظيفة جسدية وليس دينية.

والجمال هو انعكاس لجمال الله وروعة خلقه وسر سحر ما صنعت يداه ليخرج الانسان من «سأمه» كما كتب الشاعر صلاح لبكي في كتابه «سأم». هذا الضجر من الذات ومن الوحدة لا يبدده ويكسره الا حضور الآخر وحبه لمشاركتنا وجودنا الانساني.

الخروج من الذات هو الشفاء

عندها نخرج من ذاتنا ومن انانيتنا ومن اناشيد المديح لما نفكر ونقول ونعمل ولا نعد نقيم الكلام لوحدنا Solologue او التكلم مع ذاتنا monologue بل نقيم حواراً مع آخر Dialogue وهذا الاخر هو المفترق عنا. ونكف عن التباهي بالذات او مديحها او الاعجاب بها ونقلع عن التلغيز و«التلميز» و«التلطيش» والمداعبة الكلامية او التغزل الطفولي دون رجولة ورصانة بل «بشطة ريق» و«نفس خضراء» و«ضربة عين»، لا تدل على النضج والشبع من العمر واحترام الذات.

الحالة الطاووسية

الحالة النرسيسية تدوم مع العمر ولا يخرج الانسان منها الا بالنضج العاطفي والعقلي والسلوكي. فلا يبقى سلوكيا وتصرفنا وتفكيرنا قولاً وفعلاً في مرحلة مراهقة مستمرة عائشاً بين مرايا وجه في المرآة او في نظر الاخيرين. انها حالة مرضية لا يعرف فيها معنى الكرم والمجانية والتضحية والتواضع، والبساطة والانمحاء والاصغاء والكف عن الادعاء والبقاء في حالة «طاووسية» طوال العمر وشهوة التملك والامتلاك غير عارف اي معنى للعطاء والكرم والمجانية تخف هذه الحالة عند الذين يخدمون ويهتمون بسواهم كالاهل مثلا او الذين يسهرون على خدمة الآخرين.

وحده حل العطاء والبذل والخدمة والتضحية من اجل الآخر هو الدواء الشافي والعلاج الناجع للكثير من هذه الامراض النفسية التي تصيب الانسان كل انسان وتعطي الاستقرار النفسي والتوازن العقلي والعاطفي والسلوكي اي الخروج من الذات ومن عبادتها في الاعجاب في الذات وجمالها: شكلاً جسدياً او صوتاً جميلاً او ابداعاً فنياً او فكرياً او رياضياً او سواهامن المواهب التي سكبها الله علينا من جماله هو ومن حبه لنا يوم لامست يداه تراباتنا الفانية وكياننا المعطوب والمكسور والمضروب بالغربة والكآبة، دون شفاء او استقرار وسكينة لان الانسان في صيرورة دائمة (En devenir) ذاهب الى اكتمال ذاته فليس هو كائن في ذاته En - Soi بل هو كائن في جميع رغباته Pou - Soi ونداءاته الكيانية الوجودية لانه هو كائن «المعية». اي ان تكون تعني ان تكون مع آخر وليس ملتصقاً بذاتك لا تستطيع ​التنفس​ والحياة، بل انت في اختناق وجودي لا شفاء لك منه الا ان تنظر وتشتهي وتحب آخر والتصوف هو هذا العشق الالهي للآخر المطلق الازلي الوحيد السرمدي مشتى القلب والعقل.