ربما هو قدر الشارع المسيحي في لبنان، لا بل حتمًا هو قدرُه. قبل الصمت الانتخابي، كلمتان مستحقّتان لأسياد هذا الشارع الذي ما إن يغرق في حلم الغدِ حتى يستفيق بصفعةٍ على وجهه من مرارة الحاضر تهدُّ حيله.

في 18 كانون الثاني من العام 2016، أنتج سيّدا ​الرابية​ و​معراب​ تفاهمًا صريحًا. الأوّل غدا رئيسًا للجمهورية وما انفكّ يعمّق الالتفاف الشعبي المسيحي وغير المسيحي حوله. والثاني، نسج تحالفاته بذكاء ويستعدّ لرعاية كتلةٍ برلمانية تكبر وتنمو من موقعه وشارعٍ مسيحي تتّسع رقعة انتشاره. أنتج هذا التفاهم ما أنتجه من “رئاسة مسيحية قويّة”، إلى قانون استعادة الجنسيّة، مرورًا بفرض اقتراحات قوانين رغم الاعتراضات الواسعة عليها، وصولًا إلى الإتيان ببعض المجالس البلدية المشتركة.

لم يكن العمل الحكومي مسرحًا خصبًا لتكريس تفاهم الفريقين المسيحيَّين بقدر ما استحال فسحةً للخلاف لا الاختلاف. نادرًا ما اتّفق وزراء التيار الوطني الحرّ ووزراء القوات على ملفّ. نادرًا ما “بلعوا الموسى” أمام “الشمّاتين” الذين ينتظرون تفاهمهم عند “المفترق” هم الذين ما صدّقوا يومًا أن خصمَي الحرب الدامية قد يتفقان.

اليوم، عشية انتخاباتٍ ما عاد التراجع “التحالفيّ” أقله العلني فيها واردًا، تعود لغة التخاطب إلى سابق عهدها، يعود “عواء” الاتهامات والتعيير بالماضي والتاريخ والأخطاء والهفوات بطلًا. يحاول الطرفان عبثًا “لملمة” الأمور و”طمطمتها” من دون أن يفلحوا، أو هم لا يريدون أن يفلحوا بعدما وجدوا في هذا التراشق “سلاحًا” انتخابيًا فاعلًا على طريق استقطاب الأصوات وشدّ العصب الانتخابي في دوائر ما وجدوا في واحدة منها على الأقل ضالّةً أو طريقًا إلى التحالف. وفيما تبدو الخصومة صارخةً في ​بيروت​ الأولى وكسروان-جبيل وزحلة وصيدا-جزين وبعبدا والشوف-عاليه وزغرتا- بشري-البترون-الكورة، تبقى الطامة الكبرى في دوائر يحاول فيها الفريقان نظريًا استعادة الدور المسيحي كصور-​الزهراني​ ليتّضح أن القواتيين لن يمنحوا المرشّح المدعوم من التيار أصواتهم حتى لو كان ذلك على حساب ظفر مرشّح الرئيس ​نبيه بري​، وهو كلامٌ يُهمَس صراحةً في قرى شرق صيدا المسيحيّة التي ألحِقت ظلمًا بالزهراني.

أيًا تكن نتائج الانتخابات التي عرّت حقيقة النوايا وأكدت للبنانيين أن “الشوفينية” المارونية لا يمكن أن تستكين حتى عندما تكون “مغبونة” ومستضعفة، ماذا يبقى من “تفاهم معراب” الذي يسعى عرّابوه ما استطاعوا إلى إنقاذه طالما أن عنوانه الأبرز “الاستثناء”؟ ما قيمتُه إذا كان يستثني التوافق في الحكومة وفي ​الانتخابات التشريعية​، وفي الملفات المعيشيّة، وفي الرؤى المستقبلية؟ ما قيمتُه طالما أن واضعيه ما انفكوا يعيشون على هاجس إطالة عمره وتدعيمه بممجوجاتٍ من قبيل: “الاختلاف لا يعني الخلاف”، و “التفاهم لا يشمل في الضرورة الانتخابات”، و”يحق لكلّ منا أن يتحالف مع من يشاء”؟

حتمًا ليس المطلوب أن يذوب الطرفان ولن يفعلا لو نزلت السماء على الأرض، ولكن في المقابل ليس صحيًّا أن يعيش مسيحيو الطرفين أو أولئك القابعون خارج حلقتيهما على “أوكسيجين” صمود تفاهم حتى البَدَهي فيه سقط مذ عادت الصواريخ الإعلاميّة والحروب الكلامية.

إذا كان كلّ هذا الشُقاق غيمة عابرة ركونًا إلى كونه “كلامًا انتخابيًّا” مسوّغًا لا أكثر، فالحريّ بالطرفين إعادة شدشدة براغي التفاهم كي لا يتفكّك ما بعد الانتخابات في مرحلة تشكيل الحكومة وصوغ بيانها، أمّا إذا كان تمهيدًا لعَودٍ إلى زمن الحقد والكراهية المتلطّيَيْن بين سطور تفاهم “غير مقدّس”، فالحريّ بهما أن يبُلّاه وأن يشربا ماءه وأن يُجهرا للشارع المسيحي كرهَيْهما لبعضهما واستسلامهما لعلامات التاريخ وأن يرميا وراء ظهريهما سنتين ونيفًا من التمثيل الناجح.