كثيرون منّا ينتظرون منهم أن يأتوا بحلول خارقة لأزماتٍ حارقة، ولكن قليلون منّا يُدركون بأن من يسألونهم حلولاً هُم أنفسهم مُسبّبوا هذه الأزمات. نُريد منهم ماءً، نُريد كهرباءً، نُريد أمناً، نُريد وظائف لأبنائنا والحلول لإقتصادنا الراقد على رجاء القيامة وسط دينٍ ثقيل، وبعضاً من حقوقنا الطبيعيّة ليس إلاّ، وهُم يُجيبوننا بوعودٍ زهرية وبمشاريع وأشباه مشاريع ليس إلاّ! وما بين أسئلتنا البارحة ووعودهم البارحة، وأسئلتنا اليوم ووعودهم اليوم، تُقيم بعض التفاصيل، والشيطان نفسه يكمن في التفاصيل.

في يومٍ مضى من أيّام التاريخ البشري، سألت أمّ ابني يعقوب ويوحنا زوجة زَبدى يسوع، بأن يعُطي امتيازا خاصّاً لإبنيها فيُجلس واحداً عن يمينه وآخر عن شماله في ملكوته، فأجابها قائلاً: "هل يَستَطيعا أَن يَشرَبا الكأس التي أَشربُها أنا، وأن يَصطَبِغَا بِالصِّبغَةِ التي أَصطَبِغُ بِهَا أَنا؟"(متى20: 22).

وسأل الصدوقيّون يسوع عن ​المرأة​ المتزوّجة من سبعة رجال، لِمَن تكون في ملكوت السماوت، فأجابهم قائلاً: "في مَلَكوتِ السَّمَاوات، لا يُزَوِّجونَ ولا يَتَزَوَّجون"(متى20: 30).

وسأل التلاميذ يسوع حول المُلك الذي سيُعيده ل​إسرائيل​، "فأجابهم قائلاً، لَيْسَ لَكُمْ أَنْ تَعْرِفُوا الأَزْمِنَةَ وَالأَوْقَاتَ الَّتِي جَعَلَهَا الآبُ فِي سُلْطَانِهِ، لكِنَّكُمْ سَتَنَالُونَ قُوَّةً مَتَى حَلَّ الرُّوحُ الْقُدُسُ عَلَيْكُمْ، وَتَكُونُونَ لِي شُهُودًا فِي أُورُشَلِيمَ وَفِي كُلِّ الْيَهُودِيَّةِ وَالسَّامِرَةِ وَإِلَى أَقْصَى الأَرْضِ"(أع1: 7-8).

انتظر السائلون أجوبةً أرضية على أسئلةٍ من تحت، فإذا بيسوع يأتي بأجوبةٍ من فوق، أجوبة سماوية سامية تُخاطِب قلوب السامعين وتهديهم إلى التوبة.

ما الذي يحدث هُنا، وما هذه الأجوبة! يسأل السائلون يسوع في شؤون الأرض فيُحدّثهم عن شؤون السماء!. أم يعقوب ويوحنا مهتمّةٌ بالمجد والقوّة الأرضيين، وكيف تجعل من ابنيها أقوياء ومتسلطين في الأرض، وبحسب منطق قوّة الأرض. الصدّوقيّون، يريدون من يسوع أن يحلّ مشاكلهم اللاهوتية فيؤكّد على ما يعلّموه ويُمكّنهم من الإستعلاء على المؤمنين الآخرين ممن لا يعتقدون معتقدهم. والتلاميذ يريدون منه أن يجد الحلول المناسبة للإحتلال الروماني لأرض إسرائيل. كلّ اهتمامات السائلين تبدأ وتنتهي عند حدود الأرض، وهي متأتّية من التعقيدات التي أفرزتها قوى العالم.

يسوع لا يُجيب على الأسئلة بأجوبة من الأرض بل من فوق، من السماء، من العلاقة التي تجمعه بأبيه السماوي. فمن يرغب بالحصول على الأجوبة المناسبة التي تُمكنه من فهم معنى الله، ومعنى حياته ومعنى التاريخ عليه أن "يولَدَ من فوق"(يو3: 7)، إذ بإمكان مَن يولَد من الله فقط، أن يفهم ويشرح الأحداث المُحيطة به بمنظور الله، وأن يُساعِد في إيجاد الحلول الرافعة لإخوته البشر، والعكس صحيح، لأنّ "مولود الروح روح ومولود الجسد جسد"(يو3: 6).

لم يُعطِ يسوع شروحاً ولا حلولاً سياسية للمشاكل السياسية، بل حلولاً روحية. فالمشكلة الرئيسية التي تُسبّب هذا الكمّ الهائل من البؤس والشقاء في العالم، لا تأتي من الخارج، بل من داخل الإنسان، من القلب الذي هو مصدر الخير والشرّ على السواء(مر7: 20-23)، ولكي يصحّ الخارج، على الإنسان أن يُتَوِّب قلبه ويشفيه بتعليقه بالسماء، إذ عندما تصحّ العلاقة بالسماء، تصحّ علاقة الإنسان بأخيه الإنسان وبالخليقة كلّها، فيشفى الإثنان.

إنَّ ما يحدث من حولنا من أزمات، يدعونا، في الواقع، إلى الهداية والتوبة، وليس في ذلك انتقاصاً لقيمة مَن يتوب، بل فضيلة وصفاءً ونقاء. فوحده القلب التائب يستطيع أن يرى الجمال في الآخر ويكتشف معنى حياته وحياة الآخرين، فيسعى جادّاً إلى خدمتهم في كامل المحبّة.