لعلّه الهجوم الإسرائيلي الأكثر دمويّة على إيران ليس منذ بدء حرب "طوفان الأقصى" التي لم تنتهِ فصولاً بعد، بل منذ بدء الصراع بالمُطلَق، ذلك الذي شنّته تل أبيب فجر الجمعة، ووصفته بـ"الجولة الافتتاحية"، وسط صدمة العالم كلّه، بما في ذلك الإيرانيّون، وإن كانت الساعات السابقة مهّدت له، حتى إنّ الرئيس الأميركي دونالد ترامب بدا كمن يبلغ طهران مسبقًا به، حين قال قبل ساعات من حصوله إنّه مرجّح بقوة، ولو أنّه لم يجزم إن كان "وشيكًا".
قبل كلام ترامب، كانت الكثير من المؤشّرات توحي بأنّ الصراع بلغ نقطة اللا-عودة، إن جاز التعبير، فتبادل التهديدات بين إسرائيل وإيران وصل إلى الذروة، على وقع التراشق الكلامي بين إيران والولايات المتحدة، مع وصول المفاوضات بينهما إلى "حائط مسدود"، ولو أنّ الانطباع السائد كان أنّ أيّ "تفجير" لن يحصل قبل يوم الأحد، موعد الجولة السادسة من المفاوضات، التي وُصِفت بالحاسمة، بمعنى أنها إما تقود إلى صفقة، أو إلى الحرب.
في المؤشّرات أيضًا، برزت تحرّكات لافتة للأميركيّين، بدأت تأخذ منحى تصاعديًا قبل 48 ساعة، حين أعلن ترامب خفض أعداد الموظفين والدبلوماسيين في المنطقة، قبل أن تدعو السلطات الأميركية رعاياها إلى "الحذر الشديد"، لكنّها مؤشّرات تعاملت معها طهران كما لو كانت جزءًا من استراتيجية "الضغوط القصوى"، بل إنّ المحسوبين عليها كانوا يسرّبون أنّ الضربة إن حصلت، ستكون محدودة، لدفع إيران للقبول بشروط واشنطن.
نامت إيران على "حرير" الضغوط التي لن تزحزحها عن مواقفها المبدئية الثابتة، لتستيقظ على عدوانٍ لم تتخيّل حصوله حتى في كوابيسها، وسط انفجارات متنقّلة، واغتيالات متسلسلة، شملت كبار مسؤوليها، بل قادة الصف الأول فيها، وهو ما عدّته "إعلان حرب"، لكنّه "إعلان حرب" كلّفها الكثير، من معادلة "الردع" التي يقول البعض إنّها خسرتها منذ أشهر، إلى "الهيبة" التي بدت مفقودة، فكيف تستعيدها، وأيّ آفاق لهذا التصعيد الذي قد يكون الأخطر منذ عقود؟!.
بمعادلة "الردع" حاولت إيران أن تواجه التسريبات عن ضربة إسرائيلية محتملة، فتحدّثت عن "عملية استخبارية معقّدة" نفّذتها، تركت كلّ تفاصيلها مجهولة ومبهَمة، مكتفية بالقول إنّ خريطة "المنشآت السرية الإسرائيلية" أصبحت بحوزتها بنتيجتها، وهو ما استكمله وزير الدفاع الإيراني عزيز نصير زاده حين هدّد بضرب القواعد الأميركية في المنطقة في حال اندلاع صراع، مشيرًا إلى أنّ القوات العملياتية الإيرانية مجهزة بشكل كامل لذلك.
لكنّ هذا "التكتيك" الإيراني القائم على "الردع" لا يبدو جديدًا على حروب المنطقة، فقد سبق أن اعتمده "حزب الله"، الذي يُعَدّ الأداة التنفيذية الأقوى لإيران في المنطقة، في حربه ضدّ إسرائيل، معتقدًا أنّه يستطيع من خلاله تجنّب المواجهة العسكرية، فإذا به يواجه خططًا إسرائيلية لم يكن يتصوّرها، بدءًا من مجزرة أجهزة البيجر الشهيرة، وصولاً إلى اغتيال أمينه العام وزعيمه التاريخي السيد حسن نصر الله، الذي شكّل نقطة تحوّل في الصراع.
أكثر من ذلك، ثمّة من يشبّه العملية الاستخبارية المعقّدة التي تحدّثت عنها الجمهورية الإسلامية في الأيام الأخيرة، بمسلسل "الهدهد" الذي كان "حزب الله" يرسله إلى بعض المواقع الإسرائيلية "الحسّاسة"، فيعود بـ"كنز ثمين" يصوّره الحزب على أنّه "بنك الأهداف" في حال اندلاع الحرب، إلا أنّ هذا "التكتيك" لم يمنع إسرائيل من تنفيذ مخطّطاتها، التي كانت أيضًا أكثر بكثير ممّا كانت قيادة الحزب تتصوّره أو تخاله، بدليل الاختراق الكبير الذي جرى في صفوفها.
أكثر من ذلك، يقول البعض إنّ إيران اليوم تدفع ثمن ما جنته يداها، فهي خسرت معادلة "الردع" عندما سكتت على اعتداءات إسرائيلية أخذت تتصاعد تدريجيًا، بدءًا من اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية في قلب طهران، وهي جريمة مرّت مرور الكرام إيرانيًا، وبقيت لفترة طويلة بلا ردّ، حتى إنّ هناك من يقول إنّ "حزب الله" في لبنان كان المبادِر إلى الردّ، فيما كانت إيران تكتفي بتوجيه التهديد والوعيد.
ولعلّ اغتيال الأمين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصر الله كان "الضربة القاصمة" للإيرانيّين في المنطقة، فإسرائيل قبل غيرها كانت تعتقد أنّ جريمة بحجم قتل هذا "الرمز" سيفجّر الصراع في المنطقة، بل سيؤدي إلى حرب إقليمية وشاملة، فإذا بالردّ الإيراني عليها يأتي "باهتًا" في أفضل الأحوال، بعدما اختارت إيران أن "تثأر" له ولهنية سويًا، بإطلاق صواريخ ومسيّرات، في عملية هلّل لها المؤيدون لبضع ساعات، لكنها لم تبدُ "موازية" للفعل الإسرائيلي.
هكذا، يقول العارفون إنّ إيران خسرت معادلة "الردع"، ما دفع إسرائيل إلى التمادي أكثر، وصولاً إلى تنفيذ هجومها الأكبر، في قلب إيران هذه المرّة، لا عبر الوكلاء، واغتيال معظم قادة الصف الأول دفعة واحدة، فما هي الخيارات المطروحة أمام إيران اليوم لاستعادة هيبتها؟ هل يمكن القول إنّ الحرب المباشرة التي لطالما تجنّبتها طهران أضحت أمرًا واقعًا، أم إن الحسابات الإيرانية المختلفة ستدفعها إلى اعتماد سياسة "الصبر" الذي لم يعد "استراتيجيًا"؟!.
يقول العارفون إنّ كلّ الاحتمالات والسيناريوهات تبدو واردة، لكنّ الأكيد أنّ الجمهورية الإسلامية في إيران اليوم في وضعٍ لا تُحسَد عليه، فالضربة التي تلقّتها لا تشبه أيّ ضربة سابقة، والتعامل معها لا بدّ أن يكون مختلفًا، بعيدًا عن الاكتفاء برفع الصوت والتهديد، أو التذرّع بعدم الرغبة في الذهاب إلى حرب، خصوصًا أنّ ما فعلته إسرائيل هو "إعلان حرب" بأتمّ معنى الكلمة، فكيف إذا كانت تلوّح بالمزيد منه، باعتبار أنّ ما جرى ليس إلا جولة الافتتاح؟.
بهذا المعنى، يشدّد العارفون على أنّ الردّ الإيراني على ما جرى "حتميّ"، بعيدًا عن ذلك الردّ الأولي الذي يقوم على إطلاق الصواريخ والمسيّرات، والأهمّ أنّ هذا الردّ يجب أن يتمّ هذه المرّة بشكل مباشر، وليس بالواسطة، ولا عبر الوكلاء، فما تجنّبته إيران على مدى عقود لم يعد بالإمكان تجنّبه، إلا بإعلان "استسلام وهزيمة" في مقابل "إعلان الحرب" إسرائيليًا عليها، مع ما يعنيه ذلك من كسرٍ للهيبة، ومعها ربما لكلّ مقوّمات صمود النظام.
كما أنّ هناك من يشبّه العملية الاستخبارية المعقدة التي أعلنت إيران عن تنفيذها بعمليات "الهدهد" التي كان يعلن "حزب الله" عنها بين الفينة والأخرى لردع إسرائيل، ثمّة من يشبّه ضربات فجر الجمعة المتسلسلة والمتنقّلة بمجزرة "البيجر" التي نفّذتها إسرائيل ضدّ الحزب، وكانت "نقطة البداية" لحرب أرادت منها القضاء على الحزب، فهل نكون أمام مسار موازٍ ومشابه للقضاء على البرنامج النووي الإيراني، وربما لإسقاط النظام في إيران؟!.