لم تخرج مسألة تأليف الحكومة عن المألوف بعد، فغالبية الحكومات السابقة كانت تأخذ أسابيع وأشهراً للولادة بسبب طبيعة الواقع السياسي الذي يحكم البلد، وبفعل المحاصصات التي تمسك بعنق الحقائب الوزارية ولطالما كانت هي السبب الرئيسي في تأخير تشكيل الحكومات السابقة، وهذا بالتأكيد يعطي انطباعاً داخلياً وخارجياً بأن الوضع السياسي في ​لبنان​ ما زال يُعاني من الخلل وعدم الاتزان، ولو لم يكن الأمر كذلك لما كان تأليف أي حكومة يأخذ أكثر من يومين أو ثلاثة على غرار ما يحصل في البلدان المتقدمة وغير المتقدمة في بعض الأحيان.

وبالرغم من الاتصالات والمشاورات التي تجري خلف الكواليس بين القوى السياسية فإن عملية التأليف لم تخرج بعد من المربع الأول، بمعنى ان الجهود المبذولة منذ ان كلف الرئيس ​سعد الحريري​ تأليف الحكومة لم تستطع إحداث أي خرق في جدار المطالب السياسية التي هي في بعض جوانبها مطالب تعجيزية تحتاج إلى معجزات لحلها على شاكلة ما هو حاصل بين «التيار الوطني الحر» و«القوات اللبنانية».

صحيح ان أي مفاوضات تجري لحل أي أزمة حكومية أو غير حكومية تترافق مع رفع أسقف المطالب للأطراف المعنية للحصول على قدر كبير من المكاسب، وتنتهي الأمور في نهاية المطالب على ركون هذه الأطراف إلى عملية تبادل التنازلات لتجاوز الحائط المسدود والذهاب باتجاه الحلول، الا ان ما هو حاصل اليوم لا يوحي بأن أطراف النزاع الحكومي في صدد تبادل تقديم التنازلات بل العكس صحيح، فإن هؤلاء يضعون أصابعهم على الزناد وراء متاريس من المطالب العالية، والتي تحتاج إلى مقاربة هادئة وحكيمة وإلا فإن مشوار التأليف قد يستمر أشهراً، وبالتالي يخسر لبنان ما جاءه من فرص كبيرة لتحسين أوضاعه المعيشية والاقتصادية وتعزيز قدراته العسكرية والأمنية عن طريق المؤتمرات الدولية التي انعقدت لهذه الغاية في ​فرنسا​ و​إيطاليا​ و​بلجيكا​، وتذهب معها آمال اللبنانيين ادراج الرياح.

لقد بات من المعلوم ان أبرز العوائق التي تعترض طريق التأليف يتمثل بثلاثة عوائق يأتي في مقدمها عقدة التمثيل المسيحي في ظل الصراع الدائر بين «القوات اللبنانية و«التيار الوطني الحر» على الحقائب، حيث برزت في الساعات الماضية جملة من الفيتوات المتبادلة على بعض الحقائب وهذه عقدة لن يكون على الرئيس المكلف حلها بسهولة.

وتتمثل ثاني العقد بالاشتباك الحاصل بين المختارة وخلدة على الحصص الوزارية. ففي الوقت الذي يحسم فيه النائب السابق ​وليد جنبلاط​ الجدل في ما خص الحقائب الوزارية الثلاث للحزب التقدمي في حال كانت الحكومة ثلاثينية، يُؤكّد النائب ​طلال أرسلان​ انه من غير الوارد عدم التمسك بمطلب ان يكون من حصة كتلته وزير درزي، وهذه المعضلة هي أيضاً ستكون صعبة الحل على الرئيس المكلف ما لم يتنازل أحد الطرفين إلى الآخر.

اما العقدة الثالثة فقد عبّر عنها صراحة النائب ​عبد الرحيم مراد​ وهي تتعلق بالتمثيل السني في الحكومة حيث طالب خلال لقائه الوزير السابق وئام وهّاب بأن يكون هناك سنيّان في الحكومة من خارج حصة تيّار «المستقبل»، وهذه العقدة هي ايضا ستكون صعبة الحل على رئيس الحكومة، حيث تؤكد مصادر نيابية انه لا يجوز تجاهل وجود عشرة نواب من الطائفة السنية لا ينتمون إلى تيّار «المستقبل» ولا يُمثلون في الحكومة اسوة بغيرهم.

كل ذلك، ولم نتحدث عن الحقائب السيادية التي تشكل بدورها عقدة العقد ما لم يتفاهم الرؤساء الثلاثة على حلها.

وإذا كان هذا المناخ المعقد هو الذي يحكم المشاورات الجارية بشأن التأليف، فإن الرئيس المكلف أعطى من ​قصر بعبدا​ جرعة تفاؤل يُمكن البناء عليها، عندما تحدث بعد ​اللقاء الثلاثي​ الذي جمعه مع الرئيسين ​ميشال عون​ ونبيه برّي عن ايجابيات تسود الاتصالات الجارية، وقد ذهب في إعطاء جرعات التفاؤل إلى أبعد من ذلك حيث دعا أيضاً إلى عدم التوقف عند وزير من هنا ووزير من هناك، معطياً الأهمية الكبيرة للوضع الاقتصادي الذي بلغ أعلى درجات الصعوبة.

هذا الكلام للرئيس المكلف وما يوازيه من رغبات سياسية في سرعة التأليف يؤشر إلى إمكانية حصول تقدّم مع قابل الأيام على مستوى التأليف، حيث يتوقع ان يبدأ الرئيس المكلف بمروحة من الاتصالات والمشاورات على أكثر من جهة، وهو بالتأكيد لن يكتفي بما سمعه من الكتل السياسية خلال جولة الاستشارات التي أجراها في مجلس النواب، لا سيما وانه من المعلوم ان مثل هذه المشاورات تعطي نتائج أفضل، وهي غالباً ما تكون غير محصورة بوقت أو بأجندة معينة وهو ما يسمى بعملية التفاوض الرامية إلى حصول حل في نهاية المطاف مهما كانت احجام المسائل الخلافية.

في موازاة ذلك، تؤكد مصادر سياسية متابعة ان «حزب الله» لن يقف حجر عثرة امام تأليف الحكومة، وهو متفق إلى أبعد الحدود على مسألة الحقائب مع رئيس مجلس النواب نبيه برّي، وأن جل ما يطالب به ان تكون له حقيبة وازنة في الحكومة العتيدة اسوة بغيره، كما انه يطالب بأن تؤخذ النتائج التي أفرزتها ​الانتخابات​ النيابية بعين الاعتبار في عملية التأليف وتوزيع الحقائب.

وفي رأي المصادر، ان الحزب يستعجل أكثر من غيره عملية التأليف لأسباب متعددة من بينها انه يسعى لاستثمار نتائج الانتخابات والاضاءة على الانتصارات التي حققها، إضافة إلى مخاوفه من وجود رغبات من هنا وهناك لإبقاء الوضع الحالي على حاله، أي ان نبقى لمدة طويلة في ظل حكومة تصريف أعمال وهذا ان حصل لا يكون في مصلحة الحزب على الإطلاق، وهو بسبب ذلك ربما يقوم بمساع معينة من شأنها تعبيد الطريق، ولو جزئياً، امام الرئيس المكلف لتمكينه من تأليف الحكومة.

وتخلص المصادر إلى القول انه ما لم تعد القوى السياسية إلى الواقعية في تعاملها مع مفاوضات التأليف وبقيت على الأسقف العالية في المطالب، فإننا ربما نكون امام مرحلة أشبه بتلك المرحلة التي مرّت بها حكومة تصريف الأعمال برئاسة الرئيس ​تمام سلام​، حيث بقيت تصرّف الأعمال إلى ما يقارب السنة.