الأيقونة في الكنيسة غير منفصلة عن العقيدة والكتاب المقدَّس، وهي في توافق تامٍّ معهما، وكلُّ ما تُمثِّله يكون حكمًا وفق المسار الإيمانيِّ الَّذي أعلنه لنا الربُّ ​يسوع المسيح​. لكن، للأسف، ظهرت وتظهر في عالم الفنِّ الكنسيِّ شوائب تنتشر بين المؤمنين، ومنها تصوير الله الآب.

للتوضيح، عندما نتكلَّم على الثالوث القدُّوس نقول: الله الآب، والله الابن، والله ​الروح القدس​. وثلاثتهم إله واحد في الجوهر الإلهيِّ، ولا يوجد أيُّ تراتبيَّة بينهم، ولا أيُّ فرق زمنيٍّ في الوجود. فولادة الابن من الآب، وانبثاق الروح القدس من الآب، كلاهما خارج الزمن.

قد يبدو هذا الأمر غير مفهوم لبعضٍ، ومرفوضًا عند البعض الآخر، ويعتبرونه تشريكًا، ويشدِّدون على أنَّ هذا الأمر يناقض التنزيه الإلهيَّ، ويرون أنَّ كلَّ تجسيم هو تدنيس للعزَّة الإلهيَّة.

في الحقيقة، لا يمكن الاقتراب من الثالوث القدُّوس بمفهوم بشريٍّ مخلوق، لأنَّه، مهما سمت المفاهيم البشريَّة، تبقى محدودة. ولا يمكن تحجيم الخالق بمنطق المخلوق. كما لا يمكن لأيِّ شيء أن يدنِّس الله، لأنَّه، ببساطة، هو الله، ولا يوجد أقوى منه، ولا شيء يعجزه. ولا ننسَ أنَّ منطق الله اللامخلوق أعمق بما لا يُقاس من المنطق البشريِّ، مع التأكيد على أنَّ محبَّة الله لا متناهية.

أمَّا كلمتا «آب» و«ابن» اللتان ذكرهما الربُّ يسوع المسيح، فلا تعنيان إطلاقًا وجود علاقة زواج بالمفهوم البشريِّ. وكلمة «ابن» تشير إلى أنَّ يسوع له الجوهر الإلهيُّ نفسه للآب، وهي مرتبطة بالطبيعة(ousia – essence) . مثالًا على ذلك نقول: «فلان هو ابن فلان»، لأنَّهما من الطبيعة البشريَّة نفسها.

الإنجيل واضح: «الابن الوحيد الَّذي هو في حضن الآب هو خبَّرَ» (يوحنَّا 1: 18). والآية: «والكلمة صار جسدًا» (يوحنَّا 1: 14) تُعطي المعنى الكامل، فـ «الكلمة» هي الله (يوحنَّا 1: 1)، وفي اللغة الأصليَّة اليونانيَّة، الكلمة هي Logos، أي المبدأ الإلهيُّ الكامل (Le Principe).

كذلك، كلام يسوع عن نفسه واضح: «أنا والآب واحد» (يوحنَّا 10: 30)، «الَّذي رآني فقد رأى الآب» (يوحنَّا 14: 9)، «إنِّي في الآب والآب فيَّ» (يوحنَّا 14: 11).

وعندما سأله رئيس الكهنة اليهوديُّ: «أأنت المسيح ابن المبارك؟»، قال يسوع: «أنا هو» (مرقس 14: 61-62). ثمَّ أضاف في الآية نفسها: «وسوف تبصرون ابن الإنسان جالسًا عن يمين القوَّة، وآتيًا في سحاب السماء». كذلك عبارة «ابن الإنسان» فلها بُعدٌ إلهيٌّ، فهو المنتظر عند اليهود كمخلِّص (دانيال7: 13). وقد جمع يسوع في شخصه: ابن الله، وابن الإنسان، والمسيح المنتظر، كما قال للمرأة السامريَّة ( يوحنَّا 4: 26).

من هنا شهد بولس الرسول عن يسوع قائلًا: «وبالإجماع عظيم هو سرُّ التقوى: الله ظهر في الجسد، تبرَّر في الروح، تراءى لملائكة، كُرِزَ به بين الأمم، أُومِنَ به في العالم، رُفِعَ في المجد» (1 تيموتاوس 3: 16).

نعم، إنَّه سرٌّ (μυστήριον – mystērion) بمعنى الأمور الإلهيَّة الَّتي كُشِفَت لنا بالتدبير الإلهيِّ الخلاصيِّ من خلال تجسُّد ابن الله الوحيد:«"نعمة ربِّنا يسوع المسيح مع جميعكم. آمين. وللقادر أن يثبِّتكم، حسب إنجيلي والكرازة بيسوع المسيح، حسب إعلان السرِّ الَّذي كان مكتومًا في الأزمنة الأزليَّة» (رومية 16: 25-26)؛ (أفسس 3: 2-5).

وهناك أمور يجب معرفتها منعًا من السقوط في البدع والهرطقات والجهل. فعندما يكتب الإنجيليُّ يوحنَّا: «والكلمة صار جسدًا وحلَّ بيننا، ورأينا مجده، مجدًا كما لوحيد من الآب، مملوءًا نعمة وحقًّا» (يوحنَّا 1: 14)، فإنَّه يقول: «لوحيد من الآب»، وباليونانيَّة: (μονογενής – monogenēs – only-begotten)، أي: «الابن الوحيد الجنس»، ولا أحد غيره.

هذا كلُّه لتظهر محبَّة الله لنا: «لأنَّه هكذا أحبَّ الله العالم حتَّى بذل ابنه الوحيد، لكي لا يهلك كلُّ من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبديَّة» (يوحنَّا 3: 16). فالمحبَّة لا تُعاش عن بُعد، ولا بدون اتِّحاد وفداء وتضحية وعطاء وبذل للذات.

إذًا، بتجسُّد الله الابن، نقيم له أيقونة. أمَّا الله الآب، فلكونه لم يتجسَّد – «الله لم يره أحد قطُّ» – فلا يُصوَّر بأيِّ شكل من الأشكال. حتَّى الروح القدس، تقول الأناجيل إنَّه ظهر في المعموديَّة – الظهور الإلهيِّ – «بهيئة جسميَّة مثل حمامة»، وليس «حمامة»، وفي العنصرة: «كألسنة منقسمة كأنَّها من نار»، وليس «نارًا». هي عبارات تشبيهيَّة. أمَّا عن يسوع، فيُقال: «صار جسدًا» – σὰρξ (sarx)، أي لحمًا حقيقيًّا، جسدًا فعليًّا، لا هيئةً جسديَّة.

الأيقونات​ الَّتي نُشاهد فيها الله الآب – سواء في الفنِّ الروسيِّ أم اليونانيِّ – هي حديثة وبتأثير غربيٍّ، حيث يُصوَّر الآب كرجلٍ مسنٍّ، تيمُّنًا برؤية دانيال: «كنت أرى أنَّه وُضِعَت عروش، وجلس القديم الأيَّام. لباسه أبيض كالثلج، وشعر رأسه كالصوف النقيِّ، وعرشه لهيب نار، وبكراته نار متَّقدة» (دانيال 7: 9).

وقد أعلن ​المجمع المسكوني​ُّ السابع (787م) في انتصار الإيمان المستقيم ضدَّ محاربة الأيقونات، أنَّ الأيقونات تتَّبع التسليم الشريف، ولا تكون من صنع مخيِّلة المصوِّرين.

حتَّى أندريه روبليف، في أيقونته الشهيرة «أيقونة الثالوث القدُّوس» في أوائل القرن الخامس عشر، والمستوحاة من ضيافة إبراهيم، صوَّر الآب والابن والروح القدس كملائكة شبَّان متشابهين في الملامح، بأوضاع مختلفة قليلًا. وقد صدر قانون كنسيٌّ في روسيا سنة 1551م (Stoglav Council) منع تصوير الآب. لكنَّ مجمع موسكو الكبير (1666–1667م) بدأ بقبول بعض التأثيرات الغربيَّة لتصوير الله الآب، رغم أنَّه لم يُعارض مجمع Stoglav صراحة.

الخلاصة: الربُّ تجسَّد لأجل خلاصنا، والتسليم الشريف محفوظ بالروح القدس، ليبقى إيماننا مستقيمًا.

إلى الربِّ نطلب.