يشعر رئيس الحكومة المكلَّف ​سعد الحريري​ أنّه "محاصَر" من جميع الفرقاء، شركاء وأصدقاء وخصوماً، وكأنّ هناك من يريد "تطويقه" لمنعه من تأليف حكومته كما يرغب.

لا يتعلق الأمر فقط بالعقد الحكومية التي لا تزال تراوح مكانها منذ اليوم الأول لتكليفه بشبه إجماعٍ، من الدرزية إلى المسيحية وصولاً إلى السنية المصوّبة في وجهه، وبرفض أيّ طرف تقديم أيّ تنازلٍ في شأنها، بل يصل إلى حدّ الخشية من مصادرة صلاحياته التي كرّسها ​اتفاق الطائف​ لصالح أعراف جديدة تهبّ عليه من كلّ حدبٍ وصوب.

وإذا كان الثنائي الشيعي متهماً في السابق بالسعي لإرساء توازنات جديدة تطيح بنصوص الطائف، فإنّ محيطين بالحريري مرتابون من أن يكون "العهد" الذي اعتبر نفسه شريكاً فيه يسير بهذا المنحى، وهو ما فاقمه الحديث المتجدّد، ولو في الكواليس ومن باب الضغط، عن ضرورة "حصر" مهلة التكليف...

الكلّ "متواطئ"؟

على الرغم من محاولاته الدائمة لإرساء جو إيجابي وتفاؤلي، يشعر الحريري أنّ ثمّة جهات اعتقد أنّه يمون عليها تصعّب عليه مهمّة تأليف الحكومة، بل إنّ المفارقة التي تثير هواجسه أنّ هذه الجهات تكاد تشمل جميع الفرقاء، بين من يتعنّت بمطالبه، ومن يضغط عليه، وبينهما من يلومه على عدم تأليف الحكومة حتى اليوم، على رغم إدراك الجميع أنّ الكرة ليست عملياً في ملعبه، بل في ملعب الأفرقاء المتخاصمين والرافضين لمبدأ التفاوض.

وفي هذا السياق، يعتبر الحريري أنّ الكل "متواطئ" ضدّه، وكأنّ الهدف "تكبيله"، في وقتٍ كان يعوّل على هذه الحكومة بالتحديد لإعادة تصويب البوصلة، خصوصاً بعد الأزمات التي تعرّض لها في الآونة الأخيرة، وما أثير عن "اهتزاز" علاقاته الإقليمية، ولا سيما تلك التي تربطه بالقيادة ​السعودية​، والتي قيل إنّها تبقى "رهينة" شكل الحكومة الجديدة، وما إذا كان سيفرض الرجل فيها نفوذه، أم أنّها ستكون خاضعة لسيطرة "​حزب الله​" بعد النتائج التي حققها في ​الانتخابات النيابية​ الأخيرة.

وإذا كان صحيحاً أنّ الحريري تفاءل بعد شبه الإجماع على تسميته رئيساً للحكومة، وتوقّع تسهيلاً لمهمّته من جانب مختلف الفرقاء، حتى بعد الاستشارات النيابية التي أظهرت "طمع" الجميع بالتمثيل الوازن في الحكومة وكأنّها ستكون أربعينية أو خمسينية، فإنّ الصحيحأيضاً أنّه توقع أن يكون "العهد"، ممثلاً ب​الرئيس ميشال عون​ ومن خلفه "​التيار الوطني الحر​"، أكبر الداعمين والمسهّلين، خصوصاً أنّ عون سبق أن اعتبر أنّ هذه الحكومة ستكون "حكومة العهد الأولى" لا تلك التي سبقتها، وبالتالي فإنّه سيكون حريصاً على "مثاليتها"، بدءاً من طريقة تشكيلها بعيداً عن منطق المحاصصات الذي لطالما تحكّم بتأليف الحكومات في لبنان.

إلا أنّ ما حصل جعل الحريري يشعر في مكانٍ ما وكأنّ "شريكه" يضيّق عليه لا العكس، ولو كان الأخير يقول إنّ التضييق على الحريري هو استهداف مباشر للعهد ومحاولة لإضعافه، خصوصاً أنّ رئيس الحكومة المكلف اصطدم بعقدٍ بالجملة كان "التيار" أحد أطرافها الثابتين، من رفضه إعطاء "القوات" حصّة تزيد على ثلاثة وزراء، حتى بعد تكشّف فصول "اتفاق معراب" وما نصّ عليه من مناصفة صريحة في الحقائب، إلى رفضه إعطاء "​الحزب التقدمي الاشتراكي​" الحصة الدرزية الصافية في الحكومة وإصراره على تمثيل الوزير ​طلال أرسلان​، بل إنّ "التيار" دخل حتى على خط ما سُمّيت بـ "العقدة السنية"، في ضوء ما تسرّب عن أنّ الرئيس عون هو من اقترح على النواب السنّة المعارضين للحريري أن يتكتّلوا ليطالبوا بحصة وزارية.

ولاية "محصورة"؟

لا تنتهي مسألة "التضييق" التي يشعر بها الحريري عند الشروط والشروط المضادة، بل إنّ "الطامة الكبرى" بالنسبة له تكمن في المسّ بـ"صلاحياته" بشكلٍ أو بآخر، الأمر الذي استدعى منه سابقاً جمع رؤساء الحكومات السابقين في دارته، قافزاً فوق خلافاته مع عددٍ منهم، لتوجيه رسالةٍ لكل من يعنيهم الأمر كان سبق أن وجّهها أيضاً من خلال كتلة "المستقبل"، ومفادها أنّ التعرّض لمقام رئاسة الحكومة مرفوض، وأنّ الصلاحيات التي منحها الدستور لرئيس الحكومة هي بمثابة خط أحمر.

ومع أنّ رئيس الجمهورية يستخدم في هذا السياق صلاحيات منحه إياها الدستور نفسه أيضاً، الذي رغم كلّ ما يُحكى عن سحب صلاحيات رئيس الجمهورية بموجب وثيقة الوفاق الوطني في الطائف، إلا أنّه ترك بيد الأخير "سلطة التوقيع" على مراسيم ​تشكيل الحكومة​، ما يجعله "شريكاً" في التأليف، فإنّ ثمّة في الحلقة المحيطة بالحريري من يعتبر أنّ الرئيس يبالغ في استخدام هذه الصلاحية، بل يوحي كأنّه هو صاحب القرار الأول والأخير في تأليف الحكومة، وهو ما لم يحصل بالحدة نفسها في أيّ من العهود السابقة، لا مع الحريري ولا مع غيره من رؤساء الحكومات، علماً أنّ هناك امتعاضاً لدى "الحريريين" مما يسرّبه "العونيون" عبر الإعلام عن أنّ عون لن يوقّع على أيّ صيغةٍ ترده تخالف توجّهات "التيار".

ولعلّ ما زاد حساسية الموقف تمثّلبعودة الحديث خلال الأيام الماضية عن ضرورة "حصر" ولاية رئيس الحكومة المكلّف، ووجوب عدم تركها مفتوحة، بل ذهاب بعض المقرّبين من الرئيس للمجاهرة بوجود "استشارة في جيب الرئيس" من هذا القبيل. وعلى الرغم من أنّ هذا الحديث ليس جديداً، إذ درجت العادة أن يُستخدَم من باب الضغط أو الابتزاز في وجه كلّ رئيس حكومة مكلف يتأخر في تأليف حكومته، إلا أنّ الحريري يشعر هذه المرة أكثر من أيّ وقتٍ مضى بأنّ هناك من يفكر جدياً بطروحاتٍ من هذا القبيل، كتتمّةٍ لمصادرة دوره بشكلٍ أو بآخر، وهو ما لا يمكن أن يقبله بأيّ شكلٍ من الأشكال.

سباق كسر الأرقام

في المنطق، الأكيد أنّ المهلة "المفتوحة" لتأليف الحكومات تشكّل ثغرة كبيرة في الدستور، قد تكون هي السبب خلف تعنّت جميع الفرقاء في مطالبهم، وعدم التنازل عنها. ولعلّ خير دليل على ذلك أنّ أيّ رئيس حكومة يحق له أن يحتفظ بصفة "المكلّف" إلى أبد الآبدين، من دون أن يسائله أو يحاسبه أحد.

لكن في لبنان، المنطق شيء والواقع شيء آخر. لا تقتصر الإشكالية هنا على "استسهال" الأمور، والتصرف وكأن لا شيء يدعو للعجلة، بل يسمح المعنيون لأنفسهم بأخذ إجازاتٍ بالجملة دونما أيّ اكتراث، ولكنها ترتبط أولاً بالمنطق الطائفي والمذهبي الذي يتحكم بالأمور، ويجعل مجرد الحديث عن تعديل دستوري مساً بالمقدّسات.

أكثر من ذلك، تصبح معادلة أن رئيس الحكومة المكلف لن يعتذر "مهما طال الوقت" هي الثابتة، وكأنّها تمثّل "انتصاراً" لخط على آخر، في تكريسٍ لواقع يجعل الحكومات اللبنانية في "سباق" فيما بينهما على من يكسر رقم من في المدّة التي استغرقتها ولادتها...