منذ اليوم الأول لتكليف رئيس حكومة تصريف الأعمال ​سعد الحريري​ تأليف الحكومة الجديدة، لا تزال العقد التي اصطدم بها على حالها، من "المسيحيّة" التي أطاحت عملياً بـ"تفاهم معراب" الشهير، إلى "الدرزية" التي نجمت عن "الافتراق" بين "​الحزب التقدمي الاشتراكي​" و"​الديمقراطي اللبناني​"، مروراً بالسنية التي فرضها دخول نواب سُنّة من خارج مروحة "​تيار المستقبل​".

وفيما تدور المفاوضات بشأن الحصص والأحجام حول نفسها، من دون أن تسجّل أيّ تقدّم على أيّ صعيد، ثمة من يعتقد أنّ الأزمة الفعلية هي في مكانٍ آخر، وتتمحور تحديداً حول خيارات الحكومة الآتية، وبشكل أكثر تحديداً حول التعاطي مع ​النظام السوري​، في ضوء ما بدأ يُعلَن جهاراً عن أن "التطبيع" معه سيأخذ شكلاً رسمياً بعد ​تشكيل الحكومة​، ولو أدّى ذلك إلى "إحراج" الحريري بشكلٍ أو بآخر.

مؤشرات واضحة

لم يعد الأمر سراً. باتت ​الأزمة السورية​ وطريقة تعاطي لبنان معها جزءاً من المفاوضات الحاصلة على خلفية تأليف الحكومة. يكفي أن يُفتَح النقاش في هذا الموضوع الآن، قبل الأوان الذي لا يفترض أن يحين قبل بدء الحكومة المشكّلة البحث بالبيان الوزاري، ليتبيّن بوضوح أنّ الملف وُضِع على النار، نار يخشى كثيرون أن "تحرق" الطبخة الحكومية برمّتها.

لعلّ بيان "​كتلة المستقبل​" الأخير برئاسة الحريري نفسه، كان أكثر من واضح في هذا السياق. قالت الكتلة إن "الخوض بمسألة العلاقات اللبنانية-السورية، على صورة ما يجري من خلال بعض المواقف والتصريحات، هو خوض في غير محله"، وذهبت أبعد من ذلك بقولها إن "​مجلس الوزراء​ هو الجهة المخوّلة تحديد السياسات ومسار العلاقات خصوصاً في ما يتصل بالملفات الخلافية على غير صعيد".

لم يأتِ كلام "الكتلة" من العدم، ففي مواجهتها كلام أكثر وضوحاً صدر في الأيام الماضية من مكوّنات أساسيّة في الحكومة المنتظرة، بل من "شركاء" الحريري في ​التسوية الرئاسية​، بدأه رئيس "​التيار الوطني الحر​" وزير الخارجية ​جبران باسيل​ حين وعد بعودة الحياة السياسية بين لبنان وسوريا، قائلاً إن "كل الطرقات بين لبنان وسوريا، سوريا والعراق، سوريا والأردن، ستفتح وسيعود لبنان إلى التنفس من خلال هذه الشرايين البرية، كما ستعود الحياة السياسية بين سوريا ولبنان". وما لم يقله باسيل قاله رئيس الجمهورية ​ميشال عون​ بتشديده، وفق ما نُقِل عنه، على ضرورة حصول "تواصل رسمي" بين الدولتين اللبنانية والسورية.

وإذا كان كلام المحور المحسوب على "العهد" جديداً، فإنّ أفرقاء آخرين أساسيّين في التشكيلة الحكومية المنتظرة يتبنّونه منذ فترة طويلة، بل حاولوا تطبيقه في ظلّ الحكومة الحالية، ومن هؤلاء على وجه الخصوص وزراء "​حزب الله​" و"​حركة أمل​" و"​تيار المردة​"، الذين قاموا أصلاً بخطوات صُنّفت في إطار "التطبيع" مع النظام السوري حين زاروا الأراضي السورية تلبيةً لدعوات تلقوها من نظرائهم في ​الحكومة السورية​، ولو نأت الحكومة بنفسها يومها عنها، من باب أنّهم أقدموا على ما أقدموا عليه "بصفتهم الشخصية"، لا بصفتهم وزراء في ​الحكومة اللبنانية​.

نوايا مضمرة؟!

لا شكّ أنّ عون وباسيل ينطلقان في كلامهما حول الانفتاح وغيره من ضرورة "إنهاء" ملف ​النزوح السوري​ الذي يحملان لواءه منذ فترة، وهما اللذان يصرّان على أنّ الحكومة الجديدة لا يمكن أن تتركه كما هو، إلا أنّ ما لا شكّ فيه أيضاً أنّ مثل هذا الكلام، معطوفاً على اللجان الحزبيّة التي شكّلها كل من "التيار الوطني الحر" و"حزب الله" لتنظيم عودة النازحين الراغبين بالعودة إلى سوريا خارج إطار الدولة ومؤسساتها، "يحرج" الحريري بشكلٍ كبير أمام حلفائه وأصدقائه في الداخل والخارج.

أكثر من ذلك، يمكن القول إنّ التصريحات المتتالية حول الانفتاح على سوريا في ظلّ الحكومة المقبلة، بدأت تشكّل مصدر "قلق" جدي بالنسبة للحريري من "نوايا مضمرة" بوجود سياسة فعلية جديدة إزاء سوريا يريد البعض وضعها موضع التنفيذ مهما كان الثمن. وهو يربط الأمر بشكلٍ أو بآخر بـ"الحصار" الذي يحاول "التيار الوطني الحر" فرضه على رافضي مثل هذا الخيار، وتحديداً "تيار المستقبل" و"الحزب التقدمي الاشتراكي" و"​القوات اللبنانية​"، بعدم إعطائهم الثلث "المعطّل" في الحكومة، توازياً مع مسعاه عدم حصر التمثيل الدرزي على "الحزب التقدمي الاشتراكي" خشية اتخاذ الأخير موقفاً ما يؤدي إلى فقدان الحكومة "الميثاقية" التي تحتاجها من دون شكّ.

ولعلّ ما يزيد من مخاوف الحريري وهواجسه، أنّ الفريق الآخر يسعى إلى الحصول على "الثلثين" في الحكومة، بل إنّ "التيار" يريد أن يستولي، وحيداً، مع رئيس الجمهورية على "الثلث الضامن" بمفرده، ما يطرح الكثير من الأسئلة عن الأسرار الكامنة خلف ذلك، خصوصاً أنّه يحرص على التأكيد على "صمود" التسوية الرئاسية وبقائها، ما يعني أنّه يفترض أن يكون حريصاً على عدم إحراجه.

ومع أنّ الحريري يدرك أنّه قادرٌ في كلّ الأحوال على الإطاحة بالحكومة إذا ما شعر بأنّ هناك نيّة لإحراجه، خصوصاً إذا ما قرّر البعض وضعه تحت "الأمر الواقع" في مقاربة الملف السوري، باعتبار أنّ استقالته وحده كافية بإسقاط الحكومة عن بكرة أبيها، فإنّ ذلك يتعارض مع ما يُحكى عن "رهانات" على صمود هذه الحكومة طيلة ولاية "العهد"، فضلاً عن أنّ الحريري لن يكون لديه مصلحة في "الاصطدام" مع العهد، ما يتطلب برأيه التوصّل إلى "توافقات مسبقة" منعاً لأيّ سيناريو من هذا النوع.

"معركة جديدة"

قد لا يكون الحديث عن "تطبيع" مع النظام السوري جديداً في لبنان، وهو سبق أن حصل في ظلّ حكومة تصريف الأعمال الحالية، قبل أن تكرّس الحكومة مبدأ "​النأي بالنفس​" خصوصاً بعد استقالة رئيسها الشهيرة من الرياض وعودته عنها.

وبينما ينطلق مؤيدو "التطبيع" في موقفهم من "المصلحة اللبنانية الخالصة"، خصوصاً أنّ قضايا حسّاسة كثيرة تربط بين البلدين وتتطلب المعالجة، وفي مقدمها قضية النازحين، يرفضه المعارضون لعدم إعطاء "شرعية" للنظام كما يقولون، مستندين إلى أنّ التواصل في القضايا الأساسية حاصلٌ أصلاً، من خلال المدير العام للأمن العام ​اللواء عباس إبراهيم​.

وبين هذا وذاك، ثمّة من لا "يستنظف" فتح "معركة جديدة" اليوم على أبواب تشكيل الحكومة، خصوصاً أنّ مثل هذا النقاش يفترض أن يحصل داخل الحكومة بعيد تشكيلها، بل يتساءل عمّا إذا كان البعض "يهوى" توسيع مساحات الخلاف، فيما المطلوب تضييقها، حتى تؤلَّف الحكومة على الأقلّ...