صحيحٌ أنّ رئيس ​الحكومة​ المكلف ​سعد الحريري​ خرج من اجتماعه الأخير مع رئيس الجمهورية ​ميشال عون​ "متفائلاً أكثر من أيّ وقت مضى"، إلا أنّ الصحيح أيضاً أنّها ليست المرة الأولى التي "يتفاءل" فيها الرجل بقرب إنجاز مهمّته، التي كاد يشعر في مكانٍ ما أنّها "مستحيلة".

يذكر الجميع أنّ الحريري "تفاءل" عند انطلاقة مهمّته، بعد الاستشارات التي أجراها مع ​الكتل النيابية​، على الرغم من أنّ المطالب التي سمعها كانت "مضخّمة" لدرجة اعتقد البعض أنّنا ذاهبون إلى حكومة خمسينيّة لا ثلاثينيّة. ومع انقضاء الشهر الأول من التكليف، ضربت موجة تفاؤل ثانية المفاوضات الحكومية من دون سابق إنذار، لتعود وتنهار وفق الطريقة نفسها، ومن دون أن يفهم أحد ما الذي حصل.

لكن، هل تكون "الثالثة ثابتة" وفق المقولة الشائعة؟ وإذا كان "تفاؤل" الحريري مردّه أنّ "التنازلات" بدأت عملياً، كما تشير بعض الأوساط، هل من يضمن "شيطان التفاصيل"، أو ما يمكن تسميته في هذه المرحلة بـ "شيطان الحقائب"؟!

"قطار التنازلات" انطلق

يمكن القول إنّ "قطار التنازلات" انطلق عملياً بعد اجتماع ​قصر بعبدا​ الأخير، أو هذا ما أوحى به رئيس الحكومة المكلف بعد انتهائه، بإعلانه "تفاؤلاً" اعتقده البعض "مبالَغاً به"، ولو برّره بحدوث "حلحلة" على خطّ العقد الحكوميّة الأساسيّة، "مبشّراً" بمزيدٍ من الاجتماعات التشاورية والتنسيقية بينه وبين رئيس الجمهورية خلال الأيام المقبلة، التي يريدها فاصلة عن إعلان التشكيلة الحكومية.

وتشير المعطيات المتوافرة إلى أنّ "أول غيث" هذه التنازلات قد يكون موافقة رئيس الجمهورية و"​التيار الوطني الحر​" على حصّة من عشرة وزراء تقسّم بين سبعة لـ "التيار" وثلاثة ضمن ما باتت تُعرَف بـ "الحصّة الرئاسية"، ما يعني أنّ الفريق المحسوب على الرئيس تخلّى عن مطلبه بالحصول منفرداً، دون الأصدقاء والحلفاء، على "الثلث الضامن" في الحكومة، ما كان يمكن أن يشكّل "سابقة" في تاريخ الحكومات، بأن يصبح فريقٌ واحدٌ متحكّماً بها شكلاً ومضموناً.

وإذا كانت المعطيات المتوافرة تفيد بأنّ "الحلحلة" التي رُصِدت لم تؤدّ حتى الآن إلى "حلّ" العُقَد بشكلٍ كاملٍ ونهائيّ، فإنّ اعتقاداً راسخاً يسود بأنّ "التنازلات المتبادلة" لن تكون صعبة المنال، طالما أنّ الخطوة الأولى تحقّقت. فعلى خط العقدة الدرزية مثلاً، التي يحاول البعض تصويرها وكأنّها "أمّ العقد" حالياً، لن يكون صعباً أن يذهب "​الحزب التقدمي الاشتراكي​" إلى "تنازلٍ مشروط"، كأن يكون مقعده الثالث من خارج الحصّة الدرزيّة، بشرط أن يكون الوزير الدرزيّ الثالث "وسطياً"، ولو كان الحزب يرفض مثل هذا الاقتراح حتى الآن.

وعلى خط العقدة المسيحيّة، وعلى الرغم من أنّ وزير الإعلام ​ملحم الرياشي​ أعلن قبل أيام أنّ "​القوات​" لن تأخذ أقلّ من خمس حقائب، ثمّة من يقول إنّها ستلاقي "التيار" في منتصف الطريق متى بدأت التنازلات، وتقبل بخفض حصّتها إلى أربع، حتى لو لم تشتمل على حقيبة سيادية، بشرط أن يكون بينها حقيبتان أساسيتان ونوعيّتان. ويبقى حلّ العقدة السنية مرهوناً بموافقة النواب السنّة على "حصر" تمثيلهم بوزيرٍ واحدٍ من حصّة رئيس الجمهورية، علماً أنّ ذلك لا ينطبق عليه مبدأ "وحدة المعايير" الذي ينادي به الجميع، خصوصاً أنّه سيأتي عن طريق "التبادل" بين رئيسي الجمهورية والحكومة، ما يعني أنّ الأخير سيبقى "محتكراً" لحصّة الوزراء السنّة الستّة، تماماً كالسابق، بمُعزَلٍ عن الخسائر التي تكبّدها في ​الانتخابات​ وأقرّ بها.

"شيطان الحقائب"

توحي المعطيات إذاً بأنّ "العقد" التي تصطدم بها الحكومة منذ اليوم الأول لم تعد "مستعصية" كما كانت، وأنّ "التنازلات المتبادلة" يمكن أن ترسم "خريطة طريق" لتجاوزها، حتى ولو "على مضض"، باعتبار أنّ مثل هذا الحلّ قد يأتي على حساب البعض، ممّن قد يعتبرون أنّهم "ظُلِموا" في النتيجة، وهذا حقّهم، نتيجة عدم تطبيق معايير موضوعية واحدة على الجميع، بخلاف كلّ ما أشيع منذ بدء المفاوضات الحكوميّة.

لكن ما لا يلتفت إليه كثيرون، وسط كلّ هذه المعمعة، هو أنه حتى لو حُلّت هذه العقد عملياً، وتمّ الاتفاق على توزيع الحصص على الأفرقاء الأساسيّين الذين ستتشكّل منهم الحكومة وحجمها، فإنّ ذلك قد يكون "قطع نصف الطريق" ليس إلا، باعتبار أنّ "عقداً جديدة" ستبدأ بالظهور في مرحلة توزيع الحقائب، انطلاقاً من أنّ جميع الفرقاء يجاهرون بأنّهم يريدون حقائب "أساسيّة" و"نوعية" و"وازنة". ويكفي للدلالة على ذلك أنّ من يقدّم التنازلات اليوم، يقول إنّه يفعل ذلك على صعيد "الكمّ" لا "الكيف"، بمعنى أن التنازل مشروطٌ بنوعيّة الحقائب التي سيحصل عليها.

من هنا، لا يمكن الذهاب إلى أقصى درجات التفاؤل، طالما أنّ الاتفاق لم يتمّ بعد على الحقائب، خصوصاً أنّ القاصي والداني يدركان أنّ "الشيطان يكمن في التفاصيل"، والتفاصيل في هذه الحال ليست سوى الحقائب. فحقائب الدولة على سبيل المثال ستكون "منبوذة" من الجميع، ولو أعطيت أسماء رنّانة، ولن يقبلها على الأرجح سوى أصحاب "الحصص المنتفخة"، بل يمكن أن تؤدي إلى ظهور عقد جديدة قد تدفع بعض الأحزاب إلى التلويح بالانسحاب من الحكومة في حال إسناد حقائب الدولة لها، علماً أنّ الوزير ​طلال أرسلان​، على سبيل المثال، سبق أن قال في عزّ الخلاف على حقه بالتمثل في الحكومة من الأصل، إنّه ليس مصراً على الدخول إلى الحكومة فحسب، بل على دخولها بحقيبة أساسية.

ولعلّ ما يزيد من تعقيد هذه المسألة أنّ "الحقائب الأساسيّة" التي يمنّي الجميع النفس بها تبقى "محدودة" و"محصورة"، ما يعني أننا يمكن أن نشهد في المرحلة المقبلة "تناتشاً" عليها بكلّ ما للكلمة من معنى، وهو ما كان بدأ أصلاً في وقتٍ سابق قبل أن يُغيَّب عن البحث ريثما يتم الاتفاق على الأحجام أولاً. وثمّة تخوّفٌ لدى البعض من أنّ مَن كان يقدّم في السابق التنازلات لحلفائه على هذا الصعيد تسهيلاً لتأليف الحكومة، على غرار "​حزب الله​" مثلاً، قد لا يفعل ذلك هذه المرّة، بعدما أعلن صراحةً أنّه يريد دخول "البازار الحكومي" من الباب العريض، من خلال التمسّك بحقّه في الحصول على حقيبة أساسيّة.

متى تنضج؟

قد تكون الأيام المقبلة حاسمة على الصعيد الحكوميّ، لكنّها قد لا تكون كذلك أيضاً، لأنّ "العقد" تجرّ على ما يبدو خلفها المزيد من "العقد"، وبالتالي المطلوب التحسّب لكلّ الخيارات والسيناريوهات.

الأكيد أنّ الرغبة بالانتهاء من "مسرحية" التأليف المملّ المتكرّرة موجودة لدى الجميع، وخصوصاً لدى المعنيّين بتأليف الحكومة، وفي مقدّمهم رئيسا الجمهورية والحكومة. ولكنّ الأكيد أيضاً أنّ هذه الرغبة ليست مجانية، بل مشروطة حتى إشعارٍ آخر.

من هنا، فإنّ السؤال الذي يطرح نفسه، يبقى متى تنضج الظروف التي تسمح بتجاوز كلّ العوائق، لتصبح الحكومة بمثابة "أمر واقع" يتقبّله الجميع، ولو كانت "حكومة وحدة وطنية"؟!.