نتيجة "الدلع" أو "الصراع" على الحصص الوزارية، يبدو أن الدولة اللبنانية ستكون في الأيام المقبلة على موعد مع أزمة جديدة على المستوى المالي، بسبب عدم القدرة على إقرار ​الموازنة​ العامة لعام 2019 ضمن المهل الدستورية، ما يعني أن البلاد قد تكون أمام خطر الوقوع في الأخطاء السابقة والعودة إلى الصرف على أساس ​القاعدة الاثني عشرية​ من جديد.

عند إقرار موازنة العام 2018، التي أقرت أيضاً خارج المواعيد الدستورية، ربط المسؤولون بين ضرورة إقرارها سريعاً وجدية التحضير والاستعداد للمؤتمرات الدولية المقررة لدعم لبنان، سواء في روما أو ​باريس​، إذ لا يمكن الذهاب إلى مثل هذه المؤتمرات طالبين الدعم والمساعدة فيما الموازنة لم تُقر بعد، فهل يمكن الإستفادة من نتائج هذه المؤتمرات في ظل الوضع الحالي؟.

من الناحية الدستورية، من المفترض أن يقدّم وزير المالية مشروع الموازنة إلى مجلس الوزراء قبل أول أيلول، مشفوعاً بتقرير يحلل فيه الإعتمادات المطلوبة، والفروقات الهامة بين أرقام المشروع وبين أرقام موازنة السنة الجارية، ليقرها مجلس الوزراء في صيغتها النهائية ويودعها مجلس النواب ضمن المهلة المهددة في الدستور، على أن يبحث الأخير فيها ويصوّت عليها قبل أي عمل آخر في العقد الثاني، الذي يبدأ يوم الثلاثاء الذي يلي 15 تشرين الأول ويدوم حتى اليوم الأخير من السنة، لكن من الناحية العملية بات الإلتزام بهذه المواعيد من المستحيلات.

وعلى الرغم من حرص ​وزارة المالية​ على الإلتزام في تقديم مشروع موازنة العام 2019 في الموعد الدستوري، أي في نهاية شهر آب الحالي، حيث كانت الإدارة المختصة في الوزارة تناقش هذا المشروع على مدى الأشهر السابقة، بحسب ما تؤكد مصادر مطلعة لـ"النشرة"، يبقى السؤال عن كيفية إقرار هذا المشروع في مجلس الوزراء ضمن المهل المحددة، لا سيما أنه لا يمكن القيام بهذا الأمر في ظل حكومة تصريف أعمال، وفي الأفق ليس هناك ما يوحي بإمكانية تشكيل الحكومة الجديدة في وقت قريب، في ظل التداخل الحاصل بين العقد المحلية والخارجية التي تحول دون ذلك.

من وجهة نظر هذه المصادر، حتى ولو تم تشكيل الحكومة اليوم قبل الغد، "نحن دخلنا في أزمة كبيرة، فبعد التشكيل من المفترض أن تذهب إلى وضع البيان الوزاري، الذي تواجهه أكثر من عقدة، أبرزها البند المتعلق بـ"سلاح المقاومة" وآخر متعلق بالعلاقات مع ​سوريا​ ومعالجة أزمة النازحين، وبعد ذلك من المفترض أن تذهب إلى المجلس النيابي كي تطلب ثقته على أساس بيانها الوزاري"، متسائلة: "في ظل هذا الواقع هل الحكومة قادرة على إنجاز مشروع موازنة 2019 العامة قبل المهلة الدستورية المحددة"؟.

في هذا السياق، يؤكد مقرر ​لجنة المال والموازنة​ النائب ​نقولا نحاس​، في حديث لـ"النشرة"، أن التأخير الحاصل في تشكيل الحكومة يؤثر على إقرار موازنة العام المقبل ضمن المهل الدستورية، سائلاً: "كيف يمكن دراسة الموازنة، التي هي سياسة إقتصادية لا مالية فقط، خلال وقت قصير"، ويضيف: "موازنة 2019 أصبحت وراءنا".

على الرغم من ذلك، لدى نحاس رأي، يؤكد أنه قد يكون مستغرباً لدى الكثيرين، فهو يعتبر أن إقرار الموازنة من عدمه في لبنان لا يؤثر على الأداء الإقتصادي في البلد، بل على العكس قد يؤدي إلى زيادة الإنفاق، نظراً إلى غياب أي خطة إنمائية إقتصادية حقيقية تبدأ بالمعالجة في العمق، لكنه يشدد على أنه مع مبدأ قانونية إقرار الموازنة، ويشير إلى أن عدم الإقرار يعطي نظرة سلبية أمام ​الدول المانحة​ والمستثمرين، لكن "كل ما يحصل في البلد، سواء على مستوى الكهرباء أو على مستوى الإتصالات أو في أماكن أخرى، يعطي النظرة نفسها".

من وجهة نظر الخبير الإقتصادي ​حسن مقلد​، التأخير الحاصل يضع لبنان أمام خيارين أحلاهما مُرّ، العودة إلى القاعدة الاثني عشرية أو إقرار موازنة دون رؤية إقتصادية، مشيراً إلى أننا "تجاوزنا المهل الحقيقية للإقرار الطبيعي لمشروع الموازنة"، ويضيف: "لم تصبح القاعدة الاثني عشرية أمراً واقعاً بعد، لكن في ظل هذا الواقع قد نكون أمام موازنة أرقام لا تتضمن رؤية إقتصادية".

ويلفت مقلد، في حديث لـ"النشرة"، إلى أنه في العام 2017 لم تشهد الموازنة إعتراضات كبيرة، على أساس أنها كانت خطوة إيجابية على مستوى الإنتظام في المال العام، لكن في العام 2018 كان لافتاً أنها لم تتضمن أي رؤية إقتصادية، واليوم لم يعد هناك من إمكانية لوضع موازنة جيدة، مع العلم أن الوضع في المرحلة الراهنة يختلف عما كان عليه في السنوات السابقة، حيث بات ضرورياً وضع موازنة تتضمن رؤية إقتصادية واضحة، معتبراً أن عدم إقرار الموازنة يفقد لبنان مصداقيته، وبالتالي من المفترض الإسراع في تشكيل الحكومة.

في ظل هذا الواقع، يُلمح البعض إلى إمكانية تمديد المهل، من خلال المادة 86 من الدستور، التي تنص على أنه إذا لم يبت مجلس النواب نهائياً في شأن مشروع الموازنة قبل الانتهاء من العقد المعين لدرسه، لرئيس الجمهورية، بالاتفاق مع رئيس الحكومة، الحق في أن يدعو المجلس لعقد استثنائي يستمر لغاية نهاية كانون الثاني لمتابعة درس الموازنة، وإذا انقضى العقد الاستثنائي هذا ولم يبت نهائياً في مشروع الموازنة، فلمجلس الوزراء أن يتخذ قراراً، يصدر بناء عليه عن رئيس الجمهورية مرسوم يجعل بموجبه المشروع بالشكل الذي تقدم به إلى المجلس مرعياً ومعمولاً به، إلا أن الشق الثاني من هذه المادة قد يحول دون ذلك في الحال الراهنة، نظراً إلى أن لا يجوز لمجلس الوزراء استعمال هذا الحق إلا إذا كان مشروع الموازنة قد طرح على المجلس النيابي قبل بداية عقده بخمسة عشر يوماً على الأقل، أي أن مشروع الموازنة من المفترض أن يكون قد قدم قبل نهاية شهر أيلول المقبل.

في المحصلة، لبنان على موعد مع عودة الواقع إلى سابق عهده، على مستوى الموازنة العامة، بسبب التأخير الحاصل في تشكيل الحكومة، بالرغم من تحذير أغلب القوى السياسية من أن الأوضاع الإقتصادية والإجتماعية لم تعد تحتمل المزيد من التأخير، فهل أصبح الإستثناء في لبنان هو القاعدة؟.