يئس اللبنانيون من لعبة "عضّ الأصابع" التـي يـنـتـهجها بعض زعمائـهم وقادتـهم، لقد إختبـروها وقاسوا ويلاتـها فـي كل مراحل حياتـهم، خلال حروبـهم العبـثـيـة وحروب الآخريـن على أرضهم، وقبل "الطائف" وبعده، وقبل "الدوحة" وبعدها، وقبل "​التسوية الرئاسية​" الأخيـرة وبعدها... لـم يتعلّـموا شيئاً، ولـم يأخذوا العبَـر من ويلاتـها ومصائبـها. واليوم كما فـي الأمس، تتكرّر الـمأساة ويتدهور الإقتصاد وتضيق سبل العيش وتتفاقم الـهجـرة ولا أحد يـبالـي، وكأنّ الوطن ملعب للتجارب ورهينة فـي أيدي بعض القراصنة.

على رغم إصرار الرئيس سعد الـحريري على نفي وجود تعقيدات خارجية تؤخّر تشكيل الـحكومة، فإنّ أزمة التأليف تراوح مكانـها مقيّدة بالـحصص والأحجام والتوازنات والتدخلات الإقليمية. فالرئيس الـحريري الذي يتهمه فريق ​8 آذار​ بأنه يتلقّى الأوامر من القيادة ​السعودية​ وينفّذ تعليماتـها، ينفي كل ما يتـردّد من دون أن يبادر إلى تقديـم التشكيلة الـحكومية إلى رئيس الـجمهورية.

هل الـمشكلة الـحقيقية هي فـي الـحقيبة السيادية لـ "​القوات اللبنانية​" والـحصة الدرزية الثلاثية لـ"التقدمـي الإشتـراكي" ? أم أنّ هناك مشكلات أكبـر وأهمّ من هاتيـن العقدتيـن ?

على رغم زوال إصطفافَـي 8 و ​14 آذار​ فـي الظاهر، إلاّ أنّ "ملائكتهما" لا تزال حاضرة بقوة على الساحة السياسية. صحيح أنّ التسوية الرئاسية خلطت الأوراق، إلاّ أنـها لـم تلغ وجود فريقيـن متباعديـن فـي التفكيـر والرؤية والـمبادئ وفـي تـحالفاتـهما الإقليمية والدولية. فالأجندة الـتـي يـحملها "​حزب الله​" وحلفاؤه، تـتعارض كلياً مع أجندات "الـمستـقبل" و"القوات" و"الإشتـراكي"، إن كان فـي ما يتعلّق بسلاح "الـحزب"، أو بـمسألة تطبيع العلاقات مع ​النظام السوري​، أو بالـحياد، أو بالـمحكمة الدولية، أو بالـمحوريـن السعودي والإيرانـي. إذاً، الـمشكلة أبعد بكثيـر من العقدتيـن "القواتية" و"الإشتـراكية"، والـمسألة ليست كما يروّج البعض مَن يقف مع العهد ومَن يقف ضدّه، أو بيـن مَن يريد إفشال العهد أو إنـجاحه. هناك خطان متوازيان لا يلتقيان إلاّ فـي الأبدية، ونـجاح العهد فـي تشكيل حكومة وحدة وطنية وفـي ضمّ كل الأفرقاء الـمتنازعيـن، على رغم خلافاتـهم الكبيـرة وارتباطاتـهم الإقليمية، يُعتبـر إنـجازاً كبيـراً يُسجَّل له، وهذا الإنـجاز لا يـمكن أن يتـحقق إلاّ إذا تنازل فريق العهد عن بعض الـمقاعد الوزارية الـتـي يعتبـرها ثوابت وأعرافاً، لأنّ التأخيـر فـي تشكيل الـحكومة يؤذي العهد وينعكس سلباً عليه أكثـر من باقي الأطراف، ولأنّ الإستـحقاقات الـمالية والإقتصادية والـحياتية وشروط مؤتـمر "سيدر" من مسؤوليات سيّد العهد قبل أن تكون من مسؤولية رئيس الـحكومة الـمكلّف والأفرقاء الآخريـن، ويـجب أن يدرك الـجميع أنه لا يـمكن الـخروج من هذا الـجمود القاتل إلاّ فـي التوصّل إلى حكومة متوازنة فـي أسرع وقت، لا غلبة فيها لأيّ جهة وتـمثّل جـميع الأطراف. إنّ إستـمرار سياسة التـحدّي والرفض والتلويـح بالشارع والإنقلاب على ​سياسة النأي بالنفس​، والولوج إلى تفسيـرات واجتهادات قانونية من أجل الضغط على الرئيس الـمكلّف ستدفع الوضع إلى مزيد من التأزم وإلى إتساع رقعة الـخلاف واستدراج أزمات لا قوة للبنان على تـحمّلها، كما أنّ ربط تشكيل الـحكومة بالتطبيع مع النظام السوري بـحجّة تصريف الـمنتجات عبــر معبـر "نصيب"، أو بعودة النازحيـن السوريـيـن، سيؤدّيان إلى الإطاحة بالإستقرار السياسي والأمنـي والإجتماعي.

إن تاريخ الأول من أيلول الذي حدّده رئيس الـجمهورية، يـجب أن يكون حافزاً لإنـهاء حالة الـمراوحة والـمماطلة، والبدء بـمرحلة جديدة من التفاهـمات والتـنازلات التـي لا بدّ منها من أجل تقليص شظايا الضغوط الـخارجية. لقد أثبتت التـجارب أنّ الوضع اللبنانـي الدقيق لا يتـحمّل إلغاء أو كسْر أيّ فريق على الساحة الداخلية، مهما تغيّـرت

الأحجام والأوزان للـمكوّنات الأساسية فـي البلد، وهذا ما حصل فعلاً بعد إنتخابات 2005 و2009 عندما كانت الأكثرية النيابية مع فريق 14 آذار. إن أحبّ الـخلق إلى الله هم الـمتواضعون. يقول الإمام علي بن أبـي طالب : "ضع فـخرك، واحطط كبـرك، واذكر قبـرك، فإن عليه مـمرّك".

يتّهم "حزب الله" وحلفاؤه القيادة السعودية وكتل "الـمستقبل" و"القوات" و"الإشتـراكي" بأنـهم يراهنون على تغيـيـر فـي موازيـن القوى، وينتظرون معركة إدلب، ومصيـر الرئيس السوري بشار الأسد، ومصيـر الوجود الإيرانـي فـي سوريا فـي ضوء ما إنتهت إليه قمة هلسنكي بيـن الرئيسيـن الأميـركي والروسي، وينتظرون الـخامس من تشرين الثانـي الـمقبل موعد الدفعة الـجديدة من العقوبات على طهران، ويعوّلون على الـمحكمة الدولية التـي إقتـربت من لفظ أحكامها، مـمّا جعل ​السيد حسن نصر الله​ يـهدّد ويـحذّر من "اللعب بالنار"، وكأنّ النار ستصيب اللاعبيـن بـها فقط وليس الشعب اللبنانـي بأسره. حرام هذا الشعب.

إنّ من يكرّر لعبة "عضّ الأصابع" اليوم، هو كمن يلعب بالنار، لكنها هذه الـمرة ستصيـبه قبل غيـره، فـحذار.