بعيدًا عن هبّات الحُكومة الساخنة حينًا والباردة حينًا آخر، وبعيدًا أيضًا عن تبادل الإتهامات وتحميل المسؤوليّات بين مُختلف القُوى السياسيّة، تعيش الأغلبيّة الساحقة من ال​لبنان​يّين في هذه المرحلة تحت رحمة الهمّ المعيشي الضاغط، حيث تراجعت الإهتمامات السياسيّة إلى مرحلة مُتدنيّة في سُلّم الأولويّات، لتتقدّم الأمور الحياتيّة والمسائل الإقتصاديّة السيّئة على مُختلف الأحاديث، باستثناء قلّة قليلة لا تزال تتطوّع للدفاع عن "زعيم" الطائفة التي تنتمي إليها أو الحزب الذي تؤيّده، وهي فئة يُصنّف أفرادها عادة بالمُتعصّبين لخط سياسي مُحدّد أو لزعيم مُعيّن، وهم لا يقبلون أيّ نقد، ويُسارعون إلى توجيه الشتائم لأي مُخالف لرأيهم. فما هي الأسباب التي أدّت إلى هذه الحال، وهل يُمكن أن تؤثّر على الواقع الداخلي في المُستقبل؟.

لا شكّ أنّ نتائج الإنتخابات شكّلت خيبة كبيرة لكل الفئات الشعبيّة التي كانت تأمل حُصول تغييرات على مُستوى الطبقة السياسيّة، حيث خرجت الأحزاب الطائفيّة والمذهبيّة أكثر قُوّة ممّا كانت عليه، وتساقط مُرشّحو ولوائح ما يُسمّى "المُجتمع المدني" في مُختلف الدوائر، مع إستثناء وحيد ويتيم في ​بيروت​ ناجم من ضُعف إقبال الناخبين في هذه الدائرة الإنتخابيّة، وبالتالي إنخفاض "الحاصل الإنتخابي"، ما سمح بالخرق. لكنّ اللبنانيّين الذين صَوّتوا بأغلبيّتهم باندفاع "أعمى" خلف أحزابهم وتيّاراتهم وطوائفهم ومذاهبهم، بدأوا خلال الأشهر القليلة الماضية برفع الصوت تململاً من الأوضاع، وهذا الأمر يُمكن تحسّسه في أي حديث مُتبادل في الأماكن العامة والخاصة، وكذلك على ​مواقع التواصل الإجتماعي​.

والأسباب كثيرة، لجهة خسارة عشرات آلاف اللبنانيّين لأعمالهم في لبنان، وإستمرار عشرات الآلاف الآخرين بالعمل من دون تحصيل رواتبهم، وفشل عشرات آلاف المُتخرّجين في إيجاد فرصة عمل، مع إستثناءات محدودة هي أقرب إلى ما يُسمّى "البطالة المُقنّعة" منه إلى عمل مُنتج وكفيل بإعالة أي عائلة ماليًا. حتى أنّ ظاهرة فقدان الوظائف غير محصورة في لبنان، حيث فقد العديد من اللبنانيّين في الأشهر القليلة الماضية أعمالهم ووظائفهم في دول الخليج والعالم، نتيجة الأزمة الإقتصاديّة التي تُلقي بثقلها حاليًا لأكثر من سبب، إن إقليميًا أو عالميًا. وجاء وقع الأزمة الإقتصادية العالمية الصامتة أشدّ فتكًا في الداخل اللبناني، حيث تعجز العديد من العائلات في هذه المرحلة عن مُواصلة دفع سنداتها المصرفيّة، وأقساط مدارس وجامعات أولادها، وحتى أنّ بعض هذه العائلات تعجز عن تأمين قوتها اليومي، وذلك بسبب سلسلة من التراكمات الإقتصاديّة والماليّة الضاغطة، والسياسات غير السليمة المُتّبعة منذ سنوات وحتى منذ عُقود، قبل أن يأتي الإقرار المُتهوّر وبخلفيّات إنتخابيّة شعبويّة، ل​سلسلة الرتب والرواتب​، من دون أي دراسات ماليّة دقيقة، ليُشكّل النقطة التي أفاضت الكوب.

والمُفارقة أنّه بدلاً من أن تنكبّ السُلطة السياسيّة على إعلان خطّة طوارئ إقتصاديّة وعلى دراسة سُبل المُعالجة الفوريّة لإنقاذ ما يُمكن إنقاذه، وكذلك على الإسراع في اتخاذ التدابير المناسبة، غرقت في سياسة تبادل التهم والمسؤوليّات، وكأنّ اللبنانيّين ليسوا جميعًا في مركب واحد، أو كأنّ غرق أيّ طرف منهم سيكون بمعزل عن الطرف الآخر! وراحت لعبة النكايات السياسيّة والعرقلة المُتبادلة تتعاظم وتتوسّع، لتُعرقل بذلك مُختلف المشاريع التي كان يُفترض أن تكون مُنتجة، تارة بحجّة صراع الحصص على مُستوى السُلطة التنفيذية، وطورًا بسبب التطلّع من اليوم إلى تعزيز فرص الوُصول إلى ​قصر بعبدا​ بعد أربع سنوات!.

وهذه الوقائع جعلت قسمًا كبيرًا من اللبنانيّين لا يتحدّث سوى عن القرف وعن الخيبة وعن فُقدان الأمل، في مُقابل مجموعات أخرى تُقرّ بالواقع السيّء لكنّها تُحمّل المسؤولية لفئات ولجهات غير تلك التي تؤيّدها سياسيًا أو تنتمي إليها مذهبيًا، وترفض مقولة "كلّن يعني كلّن".

وبكل الأحوال، وفي إنتظار أن تُبصر الحُكومة النور، ستبقى الوعود بغد أفضل قائمة، وسيبقى الكثيرون مُتمسّكين بهذا الأمل. لكن بعد تشكيل الحُكومة الموعودة، ستكون الأنظار شاخصة إلى الأفعال وليس إلى الوُعود التي أغدق الكثير منها من مُختلف الجهات السياسيّة خلال مرحلة الإنتخابات، قبل أن تتبخّر بمعظمها في الهواء، في ظلّ عجز الناخبين سوى عن "النقّ" والتململ!.