لا شك انها من المرات النادرة التي نرى فيها رئيس دولة كبرى ك​فرنسا​، يلاقي بحرارة رئيس جمهورية لبنان في مناسبة دوليّة او في اي لقاء يجمعهما. صحيح ان العلاقة لا يمكن ان ترتقي الى تلك التي جمعت الرئيس الفرنسي السابق ​جاك شيراك​ برئيس الحكومة الراحل ​رفيق الحريري​، حيث كانت شخصية جداً، ولكنها الاقرب الى علاقات الصداقة التي تربط بعض زعماء دول اوروبا ببعض.

هذا الامر ظهر بوضوح في ارمينيا خلال اللقاء الذي جمع الرئيس الفرنسي ​ايمانويل ماكرون​ والرئيس اللبناني العماد ​ميشال عون​ على هامش اعمال ​القمة الفرنكوفونية​، ان من حيث التحية الحاصة المتمثلة بالعناق والقبلات، او من حيث الراحة في الجلوس وتبادل الحديث حيث كان ماكرون غير مقيّد بالبروتوكول كما بدا. من المؤكد والطبيعي ان يتطرق الحديث بين الرجلين الى الوضع في لبنان، وبالاخص الى الوضع السياسي ومسألة ​تشكيل الحكومة​ الجديدة، من مبدأين: الاول يعود الى الارتباط الفرنسي بلبنان، والثاني الى عناية فرنسيّة مباشرة من خلال مقررات مؤتمر "سيدر" الاقتصادي. ولكن ما يسترعي الانتباه هو ما قاله عون بعد خروجه من الاجتماع، حيث بدا وكأنه تقصّد تحييد فرنسا عن الوضع الحكومي، ليس من باب الاستيضاح الفرنسي عن الوضع، انما من زاوية قطع الطريق داخلياً على اي مسعى من شأنه ان يستدعي دولة خارجية لادخالها في المسألة الحكومية، فـ"يستقوي" بها على باقي الاطراف، فيستدعي هؤلاء دولاً اخرى للقيام بالمثل، وتأخذ عندها الامور منحى كارثياً كما كان يحصل سابقاً.

وكأن عون أراد من خلال كلامه بعد لقائه ماكرون، القول بأنه اذا لم يحبّذ تدخل فرنسا وهي الدولة التي كانت تاريخياً معنية بلبنان اكثر من غيرها، ورغم الصداقة التي تجمعه بنظيره الفرنسي حالياً، بالوضع الحكومي بشكل مباشر، فكم بالحري السماح لدول أخرى شقيقة كانت ام صديقة، بالتدخل بهذه المسألة؟ يدرك الرئيس اللبناني كما الكثيرين، ان بصمات الايادي الخارجية ظاهرة بوضوح على ساحة التأليف، من خلال مواقف بعض الاطراف، ولكنه يسعى جاهداً لابقاء الوضع على ما هو عليه وعدم تطوّره الى حدّ التدخل المباشر من قبل هذه الدول بالموضوع. فإبقاء الأزمة ضمن الحدود اللبنانية، ولو بتدخل غير مباشر من الخارج، يبقى افضل بكثير من تدخل خارجي مباشر ينقل لبنان من حالة صعبة الى حالة مستحيلة.

والواقع ان التدخّل الفرنسي يبقى غير مباشر، ولكنه شئنا ام ابينا، زاد من حرارة نار الطبخة الحكوميّة، رغم التزامه بالخطوط العريضة لجهة عدم التدخل المباشر، ولكن بين التمني والتنبيه والتحضير و"المونة" على بعض الافرقاء والتأكيد أنْ لا تبعات سياسية مطلوبة من لبنان، يبدو أنّ قطار الحكومة وُضع على السكة الفرنسيّة التي تتجه الى التأليففي وقت سريع، الا ان هذا لا يعني أنّ العقبات قد تم تذليلها بالكامل حيث يمكن ان تؤخر مسيرة القطار السريع وتخفف من حماسة اندفاعه، دون ان توقفه.

قيل ان الحكومة ستبصر النور في ايلول، ولكن المعطيات والتدخلات حالت دون الوصول الى هذا الهدف، ولكن مع البوادر السياسيّة الاخيرة، يبدو ان القول بامكان ان تبصر الحكومة النور قبل انتهاء الشهر الحالي، كلام يمكن البناء عليه، على امل الا تظهر عقبة كبيرة من شأنها تخفيف سرعة القطار بشكل جدي، فعندها لن تنفع الحرارة الفرنسية، وسنكون امام مشهد مغاير لما نتمنّاه مع بداية السنة الجديدة واقتراب استحقاقات اقتصاديّة وسياسيّة قد تلزم الجميع على اتخاذ خيارات قد لا يحبذونها، ولن يملكوا القدرة على معارضتها.