كان المشتركون بالصحف يشقّون أبواب بيوتهم في الصباح لتناول ​الجريدة​ وقارورة الحليب. هي عادة بريطانية توسّعت في الغرب والشرق وتندثر. السؤآل اليوم: هل نترقّب المزيد من الإبتكارات الالكترونية فنصدر الصحف الإلكترونية وفقاً لطلب القاريء à la carte بدلاً من صحف ال Menu أي الوجبات التقليدية السريعة والجاهزة المفروضة على القرّاء من دون أي تمييز في ما بينهم ؟

المعروف أن سلطتَي الصورة والكلمة السريعة أضحتا فرديّتين بسببٍ من مجانية وسائل النقل والتوزيع وتكلفة التحرير والطباعة. أصبح بالإمكان حذف المرحلة الصناعية الكاملة في إنتاج الصحيفة، من هيئات التحرير، والورق، والطباعة، والتخلص من الإضرابات والنقابات، ودفع ​الضرائب​ والرسوم الباهظة ووكالات الأنباء والصور لأنّ تكاليف المطبوعة تساوي صفراً على المستوى المالي.

يطلع الناشرون فيؤسّسون مواقعهم وينشرون، محققين النشوة في اختصار الحدود والمسافات، وفي اقتراح قارئ لكل طبعة أو صحيفة لكل قارئ. نعم الصحافة على مقاييس القراء أو طلباتهم، إمتهنتها "​وول ستريت جورنال​" التي تقدّم لكل قارئ منمشتركيها طبعته الخاصة.وهؤلاء المشتركون يتمتّعون باهتمامات متخصّصةبالصحافة والمعلومات الاقتصاديّة، لذا ينصبّ الناشرون على قرّاء ذوي قدرات ماليةعالية. ولأنّ كل واحد يتمتع بسلطة الطلوع على ال​انترنت​ ، فإنّه أيضاً صاحب حق بإيجاد موقع خاص به يبث منه الأخبار والمعلومات التي يراها صالحةً ووفقاً لمزاجه ومصالحه. ومع هذا النوع من النشر الإلكتروني الحر تختفي مهنة الصحافة التي يمارسها اليوم أناس لا يحصون، ولا أية علاقة لهم بعالم الصحافة أو الإعلام.

ما يبدو في الأفق، إذاً، انترنت تسير وفق نوعين من السرعة: إنّها من ناحية ممثلة بالمواقع السبّاقة المعروفة مثل: C.N.N.، B.B.C.، R.F.I.، وراديو كندا، حيث الملاحق الدائمة تُكمل الأخبار بالوقائع الجاهزة وفق ما تقتضيه أحوالها ومستجدّاتها بالثانية مستفيدةً من صدقية مشهود لها. ومن ناحية أخرى ممثّلة بشركات وأفراد يضعون بتصرف الجماهير مواقع متبدلة جذابة مغرية تمثل "مصارف" غنيّةً جداً بالمعلومات لكنّها نادرة الوثوق الكامل بها.

وصلنا إلى زمن يضع فيها كل مبحر "حبة الملح التي يريدها في طبق غيره ليحقّق مهنته الصحافية الجديدة. ويوصلنا البحث عن الصحف وفقاً لطلب القرّاء إلى توقعات شديدة الأهمية استشرفها المفكرون في أبحاثهم عن أحادية الفكر أو تنوعه. فقد أخرجت الصحف الجاهزة وسائل الاعلام إلى ما يعرف ب التنوع اللانهائي، بحيث تبدو معها سلعاً تابعة إلى أذواق المستهلكين وخياراتهم.

ألم تقدّم مصانع السيارات والطائرات والموضة للمستهلكات والمستهلكين "الموديلات" الفريدة الوحيدة الخاضعة لطلباتهم؟ قد نجد اليوم إحصائياً أكثر من 25 مليون موديل مختلف Versions توضع بتصرّف الجميع. حصل الأمر نفسه قبلاً مع شيوع آلات التصوير التي انتزعت وظائفها المهنية المختلفة وباتت في أيدي الملايين من الهواة، ومثلها الكاميرات التلفزيونية والسينمائية الفردية.

ليس هذا التنوّع اللانهائي فكرة هابطة. كان هربرت ماركوز (1898-1979)الفيلسوف وعالم الإجتماع الأميركي في طليعة الذين أسّسوا وكتبوا في العقل والثورة رافضاً التماثل والأحادية والتشابه. استغرق في كتابه "الإنسان ذو البعد الواحد" بتوصيف الحجب التقنيّة في المجتمعات الأميركية. وإعتبر بأنّ التقنيات الاعلامية المفروضة تجرّنا إلى نهايات الإنسان ومحو فكره النقدي وأسره في الخطب المقفلة والأفخاخ الثقافية واللغوية، فيمرض بالألينة Aliénation بمعنى الغربة أو الإغترابوكأنّه مساحة مسطحة مقفلة ذات بعد واحد.

وظهرآلفين توفلر Alvin Toffler باحثاً غزيراً في الانهيارات التي تحدثها وسائل الاعلام على مستوى البشرية. كتب "صدمة المستقبل" Future Shock و"الموجة الثالثة"The Third Wave و"السلطات الجديدة" Les Nouveaux Pouvoirs وعرف بدراساته ومحاضراته واستشاراته لعدد كبيرٍ من الملوك والوزراء والمؤسّسات الاعلامية في مختلف أنحاء العالم.

توفلر اليوم فيلسوف التنوع والاختيار نتيجة الثورة الاعلامية أو الموجة الثالثةوقوامها الكاميرات والقراء ولوحات المقابس والهواتف والنواسخ والحواسيب وأقراص المعلومات، وأشرطة الفيديو، والكابلات التوصيلية، وخطوط النقل، والتلفزيونات، والشاشات، والطابعات، والأقمار الاصطناعية وكلّها شبكة/عدّة واحدة معتبراً أن ثورة الكومبيوتر والاتصالات تقود ​أميركا​ مختبرها العالمي نحو تدفق إمكانيات الاختيار والتنوع إلى ما لا نهاية، وتدفّق الحرية نحو العبودية أو انتفاء الحرية.

لن نجد طالبَين يتابعان البرنامج التعليمي نفسه. وسيجرفنا التنوّع فكرياً وروحياً إلى الثقافة المفككة وتهديداً توازن ​الانسان​ الشخصي. تتفتت المجتمعات والديانات وتسقط الحرية في اللاحرية أو ما أسماه توفلر بـِ"صدمة المستقبل" الذي أتمنّى أن يقرأه كلّ عربي معاصر لأنّ هذا الإثبات الذي يشابه "النبوءة" لا يتخذ قيمته إلا بتجلّيات ما نحن فيه من مخاطر كبرى حضارية وثقافية ولغويّة إذ لكلّ لهجته ولغته أو أسلوبه الخاص في عالم متنوّع يتفكك إلى الدوائر الخاصة الضيّقة، تنزلق الدول في شهوة التنوع في الوقت الذي ينزلق الناس في تجلياتهم اللاإتصالية.