لم يكن رئيس المجلس النيابي ​نبيه بري​ يترك أزمة داخلية مستعصية من دون حل. على الأقل كان يتدخل لفرض تسوية سياسية، كما فعل إبّان تأليف ​حكومة​ ​نجيب ميقاتي​ عام 2011، فتنازل عن حقيبة ومقعد وزاري شيعي لصالح وزير سنّي هو ​فيصل كرامي​. لم يكن تصرف رئيس المجلس آنذاك ينبع من وفائه أو حبّه لأصدقائه آل كرامي فقط، بل من حرصه على ايجاد حلّ حكومي، إستدعى يومها الاشادة بخطوته، من داخل البلاد وخارجها.

لكن بري تراجع الآن خطوات الى الخلف، وإقتصر دوره على دعواته لضرورة الحل الحكومي، فتجده تارة متفائلاً، وتارة أخرى متشائماً، مع إستعداد خجول للتدخل، في حال تمّ الطلب للاستعانة به.

في ازمة التوزير السنّي الحالية، امسك بري العصا في وسطها، فلم يعبّر عن اندفاعة اظهرها "​حزب الله​" بمعزل عن حركة "أمل"، رغم وجود عضو كتلة بري النائب قاسم هاشم من ضمن صفوف النواب السنّة.

كان يتوقّع بري ولادة الحكومة بعد إزالة العقدة القواتية، ليتبيّن ان "حزب الله" ذهب بعيداً في تبنّي وتسويق مطلب "سنّة ٨ آذار"، الى مستوى مفاجىء لرئيس المجلس، الذي كان دخل في لعبة توقيت ولادة الحكومة.

صار الحزب رأس الحربة السياسية، بشكل جعل وزير الخارجية والمغتربين في حكومة تصريف الاعمال ​جبران باسيل​ يصف العقدة بالسنّية-الشيعية. وهو أمر اكده حديث الامين العام لحزب الله ​السيد حسن نصرالله​، بتصدّره صفوف المطالبين بتمثيل نواب "سنّة ٨ آذار". لو لم يكن أولئك النواب الستة يستندون الى موقف "حزب الله"، ولو سلّم الحزب اسماء وزارئه، هل كانت المشكلة قائمة الآن؟ بالطبع، كانت الحكومة ستولد، بعدما سلّم او أوحى الكل بأسماء وزرائهم، بإستثناء "حزب الله" وحده، الذي عاند، وأظهر تصلباً وصل الى ما تضمّنه خطاب نصرالله الاخير.

ولأنّ الحزب تمسّك بمواقفه، وتضامن بري معه، بإطار حلف "الثنائية الشيعية"، لم يستطع رئيس الحكومة المكلف ​سعد الحريري​ تقديم صيغته الحكومية الى رئيس الجمهورية ​ميشال عون​.

كل تلك المؤشرات، اوحت ان العقدة هي عند "حزب الله"، الذي بمقدوره الطلب من النائب الوليد سكرية التخلي عن الحلف السنّي، عندها سيطلب بري من هاشم التراجع ايضا، فتتفكك الكتلة.

بغض النظر عن حق نواب "سنّة ٨ آذار" بالتمثّل في الحكومة من عدمه، يتبيّن ان "حزب الله" تقدم خطوات سريعة في لعب الادوار السياسية، والتخطيط، والحل، والربط، ليس فقط في الساحة الشيعية، بل على امتداد طوائف ومذاهب اخرى.

ان ذاك التمدد يحصل شيعياً بالدرجة الأولى على حساب بري، الذي يفضّل ان ينأى بنفسه احيانا، او يكتفي بالتفرّج، أو إبداء الرأي، وتكرار الدعوات على صفحات الجرائد.

واذا كان بري يركّز على موضوع التآلف الحكومي لا التأليف حصراً، فهو يعرف ان الآتي صعب ومؤلم. قد تكون علّمته التجارب السياسية ذلك، بعدما شارك بصنع عهود ومراحل مضت منذ أوائل التسعينيات.

فهل يبقى بري بمنأى عن التباينات الداخلية، ويتفرج، مقابل تمدّد الآخرين سياسياً، شيعياً ووطنياً؟

ان الأمر مرهون بطبيعة العمل الحكومي، الذي تتحضّر له كل القوى بإختيار وزراء "صقور" أو على الاقل شخصيات حاضرة سياسيا وإعلاميا بقوة، كحال المرشحين للوزارة: مي شدياق، مصطفى علوش، محمود قماطي، وكل الاسماء التي يعمل التيار "الوطني الحر" على إختيارها، كي تقارع سياسياً، وتفرض آراءها اعلامياً.

يدرك بري ان طبيعة ​لبنان​ السياسية، تجعل صنّاع الحلول هم الاساس، وهو باق عند هذا الدور الوطني السليم. لكن المتغيّرات الداخليّة والاقليميّة فرضت واقعاً مغايرا، فأصبح "حزب الله" بعد مشاركته في معارك سوريا، هو المنغمس بالسياسات اللبنانية ايضا، والذي يطالب بحصص إداريّة وحكوميّة. وهو نفسه يتحضّر لتقديم نماذج إضافية في العمل الحكومي، وإقناع جمهوره اولاً، انه يلبي ما وعد به خلال حملاته الانتخابية: محاربة الفساد، وتحصيل الحقوق.

لذلك، فإن المعركة السياسية الآتية، تعتمد على إقناع الرأي العام، الذي بات يدرك ان حزب الله تقدم خطوات، فإلى أين يذهب بالبلد؟ الى فرض الحقوق، بالتمثيل الحكومي أولا، في طريقه نحو الاستحواذ على ما وعد به؟ كل المعطيات توحي بذلك. لكن دور بري لن يتأثر، لأنه أيضا يشكّل حاجة وطنية، ومطلباً عابراً للطوائف. فليرم الكل الكرة في ملعبه، وليطالبوه بإيجاد حلّ حكومي. علمتنا التجارب انه سيبتدع الحلّ خلال ساعات. قد يكون هذا ما يفعله باسيل الآن.