ما إن تسرّب خبر توقيف السيّد ​كارلوس غصن​ في ​اليابان​، بتهم التهرّب الضريبي وعدم التصريح عن كامل أرباحه وإستغلال موقعه المهني وأموال شركة "نيسان" لغايات شخصيّة، حتى سارع الكثير من اللبنانيّين-كالعادة، إلى إبداء رأيهم في المسألة، من موقع العارف بخفايا الأمور وخلفيّاتها كلّها! وفي حين تحدّثكثيرون عن "مؤامرة" تمّ تدبيرها للإيقاع بغُصن بخلفيّات سياسيّة، لم يستبعد البعض الآخر أنّ يكون هذا الرجل القوي في عالم صناعة السيّارات قد سقط في فخّ الطمع المالي، بينما فضّلت الأكثريّة إنتظار ما سيؤول إليه التحقيق. فهل من معلومات حاليًا تدلّ ما إذا كان غُصن، الذي يشغل منصب رئيس مجلس إدارة تحالف رينو-نيسان-ميتسوبيشي، مُذنبًا أم ضحيّة "مُؤامرة"؟.

في الوقائع التي ينطلق منها أصحاب نظريّة "المُؤامرة":

أوّلاً: غصن كان أعلن في حزيران الماضي أنّ شركة "رينو" التي يرأسها من ضمن مهمّاته المُتعدّدة، لن تتخلّى عن وجودها في ​إيران​ بشكل كامل(1)، الأمر الذي إعتبره البعض تمرّدًا على العُقوبات الأميركيّة المُتجدّدة على إيران.

ثانيًا: الحُكومة الفرنسيّة أعلنت أنّها لم تجد أدلّة على إحتيال ضريبي من جانب غصن، الأمر الذي طرح علامات إستفهام عن مدى صُحّة الإتهامات في اليابان.

ثالثًا: الكثير من المسؤولين والعاملين لدى نيسان، لا يُحبّون غُصن ويُمكن أن يشهدوا ضُدّه لغايات شخصيّة، لأنّه قاس ومُتشدّد في تدابيره وإجراءاته وفي تقييمه لنتائج العمل، ولأنه يرفض مُشاركة أي كان في قراراته الحازمة والأحاديّة.كما أنّ غُصن المعروف بلقب "قاتل الكلفة"، كان وراء الإستغناء عن كثير من المسؤولين والعاملين في الشركة، عندما قام بإعادة هيكلتها، الأمر الذي أطلق في الماضي سلسلة من التظاهرات الشعبيّة ضُدّه، وزاد من الجوّ العدائي له.

رابعًا:كان غُصن يسعى إلى تفعيل التحالف بين شركتي نيسان ورينو، علمًا أنّ الأولى في وضع مالي أفضل من الثانية، الأمر الذي دفع بالشركة اليابانية إلى التخلّص من غُصن لإفشال خططه التي تصب في صالح الشركة الفرنسيّة.

خامسًا: هل يُعقل أن يقوم شخص يكسب ويملك المليارات، بالتهرّب من دفع ضرائبه لتوفير بضع ملايين، أو أن يدفع أموال الشركة لغايات شخصيّة وكأنّه يفتقر إلى الأموال للسفر أو لشراء منزل؟!.

في الوقائع التي ينطلق منها أصحاب النظريّة القائلة إنّ غُصن مذنب:

أوّلاً: إنّ توقيف غُصن تمّ بأسلوب بوليسي عبر إنزاله من طائرته الخاصة قبل إقلاعها، وذلك بناء على مُذكّرة قضائيّة، علمًا أنّ مقرّ شركة نيسان كان تعرّض للتفتيش مساء الأحد الماضي قبل توقيف غُصن، وتمديد الإعتقال الإحتياطي للأخير، جاء بعد إنطلاقالتحقيقات الأوليّة التي بدأت معه.

ثانيًا: إنّ مُسارعة مجلس إدارة نيسان إلى إقالة غُصن من منصبه، ينطلق من مُعطيات تملكها الشركة بعد قيامها بتحقيق داخلي إستمرّ لأشهر عدّة وليس وليد ساعته، وقد أثارت نتائج هذا التحقيق الشكوك بشأن إرتكابات ومخالفاتقام بها أكثر من مسؤول في الشركة إلى جانب غُصن، ومنهم المُدير التنفيذي لنيسان غريغ كيلي.

ثالثًا: ليس صحيحًا أنّ رينو تابعت تجميع السيّارات في إيران بعد سريان الموجة الجديدة من العُقوبات الأميركيّة، إنّما إحتفطت ببنيتها الصناعيّة تمهيدًا لمُعاودة العمل عندما تسمح الظروف، أي أنّها لم تنتهك أي عُقوبات، إنّما حافظت على تواجدها تحضيرًا للمُستقبل، وذلك لغايات إقتصادية ومالية بحت، ولا علاقة للسياسة بها. كما أنّ الدفاع الفرنسي السريع عن غُصن الذي يحمل الجنسيتين الفرنسيّة والبرازيليّة إضافة إلى اللبنانيّة،يعود إلى علاقة صداقة قويّة تربط هذا الأخير بالرئيس الفرنسي ​إيمانويل ماكرون​ شخصيًا، وإلى أسباب إقتصادية مُرتبطة بحماية شركة رينو من أي تداعيات سلبيّة كبيرة، خاصةوأنّ الدولة الفرنسية تملك جزءًا من أسهمها.

رابعًا: غُصن كان تنحّى تلقائيًا في العام 2017 عن الإدارة المُباشرة لشركة نيسان كرئيس تنفيذي لها، مع إحتفاظه بمنصب رئيس مجلس إدارتها، وذلك بهدف التركيز على تطوير التحالف مع شركة "رينو" وخُصوصًا مع شركة "ميتسوبيشي"، الأمر الذي يُسقط نظرية سعي البعض داخل نيسان لإفشال خططه.

خامسًا: إنّ المُتضرّر الأوّل ممّا حدث لغُصن هو شركة نيسان التي فقدت جزءًا كبيرًا من قيمة أسهمها، والتي باتت خُططها المُستقبليّة التي تُعوّل الكثير عليها، خاصة بالنسبة إلى السيارات التي تعمل بطاقة الدفع الكهربائي، في مهبّ الريح، وأقلّه في مرحلة التجميد في إنتظار وُضوح الصُورة.

سادسًا: إنّ الشعب الياباني عُمومًا غير مُتساهل إطلاقًا إزاء أي عمليّات غشّ أو فساد مالي أو عدم تقيّد بالقوانين، والأمثلة مُتعدّدة عن إقالة وإدانة أكثر من مسؤول ياباني بهذا النوع من التُهم، علمًا أنّ بعض هؤلاء أقدم على الإنتحار بسبب عدم تحمّله "العار" الذي يلحق بالشخص المُدان في هذا السياق ضُمن المُجتمع الياباني.

سابعًا: العالم مليء بأمثلة عديدة عن أثرياء وأصحاب نُفوذ سقطوا في تجربة ​الفساد​ والتهرّب الضريبي وإستغلال النفوذ والمناصب لغايات شخصيّة.

في النهاية، إنّ الكلمة الفصل هي للقضاء الياباني ولتحقيقاته، وغير ذلك هو مُجرّد آراء شخصيّة تنطلق تارة من "مؤامرات" يعشق اللبنانيّون تركيب سيناريوهاتها، وطورًا من غيرة مرضيّة إزاء كل شخص ناجح.

(1) تتخطّى مبيعات رينو في الأسواق الإيرانية ما مجموعه 160000 سيارة سنويًا، وفي العام 2017 وقّعت رينو عقدًا مُهمًّا مع إيران يقضي بإنتاج وبتجميع نحو 300000 سيارة رينو سنويًا على أراضي الجمهوريّة الإسلاميّة.