لا تحظى بعض بُقع التوتّر في العالم بتغطية إعلاميّة مناسبة، علمًا أنّها تحمل بُذور صراعات مُهمّة وخطيرة على الأمن والإستقرار العالمي، ومن هذه البُقع مضيق "كيرتش" الذي يُشكّل مَمَرّا مائيًا بأهميّة إستراتيجيّة لكل من ​روسيا​ و​أوكرانيا​، مع الإشارة إلى أنّه شهد في الساعات الماضية قيام زوارق عسكريّة روسيّة بالسيطرة على ثلاث زوارق أوكرانيّة(1) بعد إطلاق النار عليها وإعتقال بحّاريها، الأمر الذي رفع منسوب التوتّر إلى أقصى الدرجات بين موسكو وكييف. فهل يُمكن أن تندلع الحرب بين الطرفين؟.

أوّلاً: يربط مضيق "كيرتش" ما بين بحر آزوف والبحر الأسود، وهو يمتد بين شبه جزيرة القُرم(2) وروسيا، علمًا أنّ هذا المضيق يتكوّن في جزء منه من ممّر مائي ضيّق بطول يبلغ نحو 4 كيلومترات. ويُعتبر حيويًا جدًا بالنسبة إلى أوكرانيا كونه يُتيح مُرور السُفن من العديد من المُدن الساحليّة الأوكرانيّة إلى البحر الأسود. كما أنّ المنطقة مُهمّة بالنسبة إلى روسيا التي بنت جسرًا فوق مضيق "كيرتش" يربط شبه جزيرة ​القرم​ بروسيا برًاً.

ثانيًا: إنّ الحادث الذي حصل في الساعات الماضية ليس الأوّل من نوعه، حيث كان هذا المضيق قد شهد العديد من المُناوشات خلال السنوات الماضية، وغالبًا ما تتبادل روسيا وأوكرانيا الإتهامات بشأن إنتهاكات في مياه بحر آزوف، وبعدم إحترام المياه الإقليميّة، علمًا أنّ الطرفين كانا وافقا في العام 2003 على إتفاق يُصنّف المنطقة كمياه داخليّة لكل من روسيا وأوكرانيا. لكن هذه هي المرّة الأولى التي تردّ فيها أوكرانيا بإعلان حال التأهّب لمدّة 60 يومًا، وباتخاذ الرئيس الأوكراني ​بيوتر بوروشينكو​، المدعوم من أوروبا والولايات المتحدة الأميركيّة، سلسلة من الإجراءات والمواقف الحازمة ضُد روسيا.

ثالثًا: العلاقة بين روسيا وأوكرانيا متوتّرة جدًا منذ العام 2014، تاريخ قيام روسيا بضمّ شبه جزيرة القرم بعد كسر قُدرة أوكرانيا على مُواجهة هذا القرار بالقُوّة العسكريّة(3). كما أنّ روسيا تدعم مجموعات أوكرانيّة إنفصاليّة مُسلّحة شرقي أوكرانيا، وتحديدًا في ​دونيتسك ولوغانسك​، علمًا أنّ هذا النزاع المُسلّح والبعيد عن التغطيّة الإعلاميّة العالميّة كان قد أودى بحياة نحو 10000 شخص منذ نيسان من العام 2014. من جهة ثانية، ترفض أوكرانيا سداد دين تبلغ قيمته 3 مليارات "يورو" لصالح روسيا، بحجّة أنّ هذه الأموال هرّبها الرئيس الأوكراني السابق ​فيكتور يانوكوفيتش​ إلى خارج البلاد، بينما ترفض روسيا في المُقابل دفع ما قيمته 4,6 مليار دولار أميركي لصالح أوكرانيا التي ربحت دعوى في محكمة التحكيم الدَولية في ستوكهولم ضدّ شركة "غازبروم" الروسية، بسبب إنسحاب هذه الأخيرة من عُقود لتصدير الغاز عبر أوكرانيا من دون مُبرّرات.

رابعًا: من ضُمن الإجراءات التي إتخذتها أوكرانيا عبر حادث مضيق "كيرتش"، إعلان سريان "الأحكام العرفيّة" في أوكرانيا، الأمر الذي رأى فيه الخُبراء خطّة مدروسة للسيطرة على وسائل الإعلام، ولمنع حريّة العمل السياسي، وذلك عشيّة الإنتخابات الرئاسيّة التي يُفترض أن تجري في 31 آذار 2019، والتي لا تبدو فيها فرص الرئيس الأوكراني الحالي كبيرة، بسبب مشاكل البلاد الإقتصاديّة والحياتيّة. وبالتالي، من المُمكن جدًا أن يتمّ تعمّد توتير الوضع مع روسيا لإلغاء هذه الإنتخابات أو أقلّه لإرجاء موعدها، أو ربما لإستخدام الوتر "الوطني" لرفع عدد مؤيّدي الرئيس بوروشينكو، في حال إجرائها.

خامسًا: الناتج المحلّي في أوكرانيا تراجع من 183 مليار دولار أميركي في العام 2014، قبل الإنقلاب الذي أطاح بالرئيس فيكتور يانوكوفيتش، إلى 112 مليار دولار في نهاية العام 2017 الماضي. ومع توقّف المُساعدات الروسيّة لأوكرانيا، بحجّة أن كييف لا تدفع ديونها لموسكو، باتت أوكرانيا تعتمد بشكل كلّي على مُساعدات ​الإتحاد الأوروبي​ وعلى قُروض صُندوق النقد الدَولي. وقد إستغنت روسيا عن تصدير غازها عبر أوكرانيا، بعد أن تمّ إنشاء خطوط أنابيب بديلة خارج أراضيها، من بينها خط "السيل الشمالي 2" الذي سيربط روسيا بألمانيا بشكل مُباشر. من جهة ثانية، جرى بناء خط غاز آخر بإسم "تاناب" يهدف إلى تصدير الغاز من أذربيجان عبر منطقة الأناضول التركيّة إلى أوروبا، على أن يكون لأوكرانيا إستفادة منه. ويُمكن القول بالتالي، إنّ جزءًا أساسيًا من النزاع بين روسيا وأوكرانيا يعود إلى خطوط إمدادات الغاز وإلى مردودها المالي.

سادسًا: لا نيّة للولايات المتحدة الأميركيّة، وللدول الأوروييّة، ولحلف الـ"ناتو" بالدُخول بأي مُواجهة عسكريّة مُباشرة مع روسيا، بسبب أزمة أوكرانيا، وأقصى ما يُمكن أن تتخذه هذه الجهات المذكورة في حال تدهور الوضع إلى حرب بين روسيا وأوكرانيا، هو مدّ هذه الأخيرة بالسلاح، بالتزامن مع فرض عُقوبات جديدة على روسيا، في الوقت الذي تواصل هذه الأخيرة مدّ الإنفصاليّين في أوكرانيا بالسلاح والدعم اللوجستي، من دون أن تتردّد بالتدخّل بشكل مُباشر عندما تدعو الحاجة. ولا شكّ أنّ أميركا والعديد من الدول الأوروبيّة، يستغلّون ورقة أوكرانيا-إذا جاز التعبير، للضط على روسيا، لكنّ سياسيًا وإقتصاديًا فقط، ومن دون أي تورّط عسكري.

في الخُلاصة، وعلى الرغم من أنّ روسيا تتصرّف مع أوكرانيا من موقع المُهيمن والمُسيطر، وليس من الندّ للندّ بين دولتين تتقيّدان بالقانون الدَولي، إلا أنّ هذا الأمر لن يدفع الرئيس الأوكراني إلى التورّط في حرب مُباشرة مع روسيا على الرغم من كل التصاريح العالية النبرة. فالرئيس الأوكراني يُدرك تمامًا أنّ الرئيس الروسي ​فلاديمير بوتين​ جاهز لإرسال قوّاته لضرب ​الجيش الأوكراني​ في ظلّ عدم تكافؤ كبير في موازين القوى، في الوقت الذي لن تجد فيه أوكرانيا عندها من ينجدها عسكريًا. وبالتالي، على الأرجح سيتصاعد التوتّر بين أوكرانيا وروسيا، نتيجة الإستفزازات والإحتكاكات المُتكرّرة، بخلفيّات أمنيّة وسياسيّة وإقتصاديّة، لكنّ لا حرب مُباشرة وواسعة بين الطرفين.