نظراً لحساسية الوضع، ولمنع تدهور الواقع الاقتصادي أكثر، دعا رئيس حزب "القوات ال​لبنان​ية" ​سمير جعجع​ كلاً من رئيس الجمهورية العماد ​ميشال عون​، ورئيس الحكومة المكلف ​سعد الحريري​ إلى اتخاذ "قرار حاسم"، مخيّراً إياهما بين "حكومةٍ بمن حضر" أو "اجتماعاتٍ وزاريّة للضرورة".

وإذا كان جعجع برّر طرحيْه بالقول إنّ "الوضع الاقتصادي والمعيشي لم يعد يحتمل"، وأنّ المطلوب "منع انزلاقه الى الهاوية"، فإنّ "البُعد السياسي" المرتبط بالمواجهة القائمة مع "​حزب الله​" الذي اتهمه جعجع بمحاولة "فرض رأيه الخاص" على عون والحريري، بدا واضحاً وجلياً خلف الاقتراحيْن.

لكن، أبعد من هذه المواجهة، ثمّة من يؤكد أنّ طرحي جعجع القديمين الجديدين سقطا سريعاً، وقبل أن يجفّ حبرهما، لأسبابٍ واعتباراتٍ كثيرة يدركها رئيس حزب "القوات" قبل غيره...

"حكومة بمن حضر"؟

إذا كان البعض ينتقد رئيس حزب "القوات اللبنانية" على "غيرته المستجدّة" على الإسراع في ولادة الحكومة، بعدما كان سبباً في تأخيرها لأشهر انهمك فيها اللبنانيون بمحاولة فكفكة ما سُمّيت بـ"العقدة المسيحية"، فإنّه قد لا يكون مستغرَباً أن يطرح "الحكيم" فكرة "حكومة بمن حضر" رداً على التأخير الحاصل في ولادة الحكومة، هو الذي سبق أن "هُدّد" بالذهاب إلى مثل هذه الحكومة في حال عدم موافقته على ما "عُرض" عليه من حصّة صرّح علناً بأنّها انطوت على "ظلم كبير" بحقّه.

من هنا، يرى كثيرون أنّ جعجع يحاول "ردّ الاعتبار" لحزبه من خلال طرح "حكومة بمن حضر"، خصوصاً أنّ هذا السلاح شُهِر في وجه حزبه، الذي يتمثل في مجلس النواب بكتلة نيابية عريضة قوامها 15 نائباً، فضلاً عن كونه يمتلك حيثية تمثيلية وشعبية لا يمكن لأعتى خصومه أن يتنكّروا لها، في حين أنّ العقدة اليوم تنحصر اليوم بستّة نوابٍ كانوا مشتّتين، وجمعوا نفسهم في سبيل التوزير ليس إلا، مع أنّ كلاً منهم ينتمي إلى كتلةٍ أخرى نالت حصّتها من التمثيل.

ومع أنّ طرح جعجع يبدو من حيث المبدأ منطقياً، باعتبار أنّ ما سرى عليه في السابق من أجل تيسير ولادة الحكومة، يفترض أن يسري على الآخرين اليوم، خصوصاً أنّ البلاد دخلت في مرحلة "الوقت القاتل"، وأنّ المماطلة لم تعد تنفع في ظلّ المخاطر الاقتصادية والاجتماعية التي لم تعد خافية على أحد، فإنّه عملياً لا يبدو قابلاً للحياة بأيّ شكلٍ من الأشكال، خصوصاً أنّ "العقدة" المتبقية اليوم، ولو كانت تحمل عنوان "السنّة المستقلّين"، ليست مرتبطة عملياً بهم بقدر ما أنّها مرتبطة بـ"حزب الله" الذي يشكّل في مكانٍ ما "حصانتهم" و"عنصر قوتهم".

أما إذا كان جعجع يدعو من خلال كلامه، بشكل مباشر أو غير مباشر، إلى حكومة من دون "حزب الله"، إذا ما أصرّ على عدم تسليم أسماء وزرائه إلى رئيسي الجمهورية والحكومة، فإنّ الأكيد أنّه طرح، ولو صحّ دستورياً وقانونياً من حيث الشكل، لا يمكن أن يستقيم على الأرض لاعتباراتٍ كثيرة، أولها أنّ تغييب "حزب الله" عن الحكومة، سيؤدي تلقائياً إلى خروج رئيس مجلس النواب ​نبيه بري​ منها، وسيخلق مشكلة جديدة عنوانها "الميثاقية". ولعلّ الأهمّ من كلّ ذلك، أنّ مثل هذه "المغامرة" ستنهي عنوان "التوافق الوطني" الذي أصرّ الحريري عليه لحكومته، هو الذي رفض الذهاب إلى "حكومة أكثرية" في مرحلة من المراحل، على رغم كلّ "الإغراءات" التي تلقاها من أكثر من طرف...

"اجتماعات وزارية للضرورة"؟

ولأنّ جعجع كان يدرك سلفاً أنّ خيار "حكومة بمن حضر" غير واقعي، بالنظر إلى الحساسيّات اللبنانية المعروفة، فإنّه قدّم اقتراحاً ثانياً قد يبدو أكثر قابلية للحياة، ويتعلق بالذهاب إلى اجتماعات وزارية للضرورة، وذلك في إطار مواجهة التحديات الاقتصادية، أسوةً بجلسات "تشريع الضرورة" التي عقدها مجلس النواب، تحت عنوان تنفيذ تعهدات لبنان الإصلاحية تطبيقاً لمقررات مؤتمر "سيدر"، الذي نجح لبنان بموجبه بالحصول على هبات وقروض ميسّرة "مشروطة"، تبقى مرهونة بتشكيل الحكومة لوضعها حيّز التنفيذ.

وإذا كان جعجع يجد هنا أيضاً من يردّ عليه بالقول إنّ المخاطر الاقتصادية ليست جديدة، وأنّ مؤتمر "سيدر" نفسه يعود أشهراً إلى الوراء، أي إلى ما قبل بروز "العقدة المسيحية"، وأنّ رئيس حزب "القوات" لم يأخذ ذلك بعين الاعتبار خلال المفاوضات المتعلقة بها، إذ تطلب منه الأمر أكثر من خمسة أشهر، ليقبل في النهاية، وتحت الضغط، بما كان معروضاً عليه منذ اليوم الأول ويرفضه، فإنّ المعلومات تشير إلى أنّ هذا الطرح، المرتبط أصلاً بطرح سبق أن قدّمته "القوات" في شأن إحياء حكومة تصريف الأعمال، يتطلب توافقاً لا يبدو متوافراً حتى اللحظة.

ولعلّ رئيس الجمهورية ومن خلفه "​التيار الوطني الحر​" يتصدّر قائمة رافضي هذا الاقتراح، بموازاة المساعي التي يبذلونها، خصوصاً من خلال وساطة وزير الخارجيّة في حكومة تصريف الأعمال ​جبران باسيل​، لتشكيل الحكومة، بل إنّهم يعتبرون أنّ إحياء الحكومة الحالية، فضلاً عن كونه سيشكّل سابقة دستورية وقانونية، سيجسّد في مكانٍ ما "تطبيعاً" مع الوضع القائم، الأمر الذي سينعكس سلباً على المفاوضات الجارية لتشكيل الحكومة، بل يخفّف الضغط عن الأطراف المعنيّين بالأزمة، بما يمكن أن يصل إلى حدّ تجميد المفاوضات إلى أجلٍ غير مسمّى.

ولا يبدو أنّ رئيس مجلس النواب نبيه بري يغرّد في سربٍ آخر، خصوصاً أنّ تشبيه الوضع الحكومي بالنيابيّ غير وارد، لا دستورياً ولا عملياً، خصوصاً أنّ البرلمان موجودٌ وإن كان ينتظر ولادة الحكومة لينتظم بصورة طبيعية، بعكس الحكومة التي لا تزال موجودة ولكن بصلاحيات محدودة نصّ عليها الدستور بوضوح. وفي حين يُعتقد أنّ رئيس "الحزب التقدمي الاشتراكي" ​وليد جنبلاط​ الذي يدعو منذ أيام إلى "تسوية حكومية"، يتلاقى مع بري في طرحه هذا، فإنّ رئيس الحكومة المكلف ليس بعيداً عن هذا الطرح، وإن كان البعض في "تيار المستقبل" لا يمانع الأمر، ولكن بشرط "تفاهم سياسي واسع" عليه، وهو ما ليس متوافراً بطبيعة الحال.

الصيغ الجديدة لا تجدي

سقط طرحا جعجع قبل أن يجفّ حبرهما. ليس في الأمر تكهّن ولا تنجيم، وإنما ينمّ عن واقعية في التعامل مع الأحداث، فلا "حكومة بمن حضر" الذي قد يكون اسماً ملطفاً لـ"حكومة الأمر الواقع" ممكنة في الظروف اللبنانية المعروفة، تماماً كما أنّ إحياء حكومة تصريف الأعمال غير مُتاح، في ظلّ عدم توافر الإرادة السياسية المشتركة حوله.

وبين هذا وذاك، فإنّ المطلوب ليس ابتداع صيغٍ وطروحاتٍ جديدة، قد تضيّع المزيد من الوقت، بل التركيز على حلّ العقدة المتبقية أمام الحكومة، والضغط على أطرافها من دون استثناء بكلّ قوة، لأنّ المماطلة لم تعد تجدي، والبلاد تكاد تكون على حافة الهاوية...